حقّ الردّ في الزمان والمكان المناسبين


بعد كلّ عدوانٍ إسرائيلي على أحد أطراف محور المُقاومة، كانت الأقلام الصفراء تنبري للتهكّم على عبارة "الاحتفاظ بحقّ الردّ في الزمان والمكان المناسبين"، وكان الجمهور المُقاوم يعرف أنّ لكل طرفٍ من أطراف هذا المحور ظروفه وقدراته، ولذلك يتفهم الردود الآنيّة والمحدودة لتلك الأطراف بعد أو أثناء كلّ اعتداء، ولكنّه كان على يقينٍ أنّ جميع الأطراف المُقاومة تعمل بصمتٍ وبسريةٍ في داخل فلسطين وعلى بعد أمتارٍ عن عيون الاستخبارات الإسرائيلية، وأنّ ما يتم العمل عليه سيكون مُنعطفاً مهمّاً ليس لفلسطين فحسب بل للمنطقة كلها.
نعم لقد نجح محور المُقاومة في اختيار الزمان والمكان المناسبين للمعركة، فلقد اختار الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتّحدة الأميركيّة في عهد الرئيس جو بايدن وهي مُبتعدة قليلاً عن "إسرائيل"، بعكس ما كانت عليه بعهد سلفه ترامب، وكثيرةٌ هي المؤشرات التي تدلّ على أنّ العلاقة بين حكومة بايدن وحكومة نتنياهو ليست في أفضل حالاتها، بدليل المفاوضات مع إيران التي يسير بها الأميركي رغماً عن الإسرائيلي. والأمر الآخر هو أنّ الولايات المتّحدة يهمّها تبريد المنطقة بعكس حكومة نتنياهو التي تسعى إلى زجّ الولايات المتّحدة في قلب النار، ولذلك كانت ردّة الفعل الأميركيّة الباردة هي محاولة لضبط الممارسات الإسرائيلية المُتهورة، التي قد تجرّ الأميركي لمواجهةٍ لا يريدها، لأنّ التصدي للخطر الروسي والصيني أصبح هو الأولويّة الأهمّ. إضافة إلى ذلك فإن الوضع داخل الكيان الصهيوني يبدو أنّه في أسوء حالاته وخاصّة في ظلّ حالة شبه الفراغ الحكومي بعد فشل قادته وأحزابه في الفوز بكتلٍ نيابيّة تُمكنهم من تشكيل حكومةٍ تقوده في هذه الأوقات الصعبة.
أما نجاح المحور في اختيار المكان فله العديد من الأهداف التي يأتي في مقدمتها إعادة اتجاه البوصلة نحو فلسطين لمن فقد هذا الاتجاه، والهدف الثاني هو أنّ فلسطين من حيث موقعها الجغرافي هي أكثر ما يؤلم الكيان الغاصب، أمّا الهدف الأهم فهو إنجاز نصرٍ مفصليٍّ قادرٍ على تغيير وجه المنطقة بالكامل. ولِتحقيق هذه الأهداف كان يجب على جميع أطراف المحور أن يكونوا في فلسطين وهذا ما حصل بالفعل.
فعندما تكون صواريخ "الكورنيت" السورية موجودة في غزة هذا يعني أن سوريا هناك، وعندما تكون الصواريخ البالستيّة الدقيقة التي تُغطي كلّ مساحة فلسطين فهذا يعني أنّ إيران هناك، وعندما يكون العمل داخل القطاع بهذه السريّة والحرفية وبهذا التكتيك المُبدع فهذا يعني أنّ حزب الله هناك، وعندما يتوحّد المُقاومون في غزّة، ويعملون بتنسيقٍ عالي المستوى، ويُراكمون كلّ ما وصلهم على ما أبدعوا من تطويرٍ في الخطط وفي التسليح، فهذا يعني أنهم جديرون بأن يُعوّل عليهم، وبأنّهم العامل الأهمّ الذي سيُعيد الحقوق للشعب الفلسطيني. وتأتي زيارة وزير الخارجيّة الإيراني لسوريا، كذلك لقاء الرئيس السوري مع قادة الفصائل المُقاومة، لترسّخ فكرة العمل الجماعي في هذه المعركة.
صحيحٌ أنّ الإسرائيلي تفاجأ بقوّة المُقاومة في فلسطين وهذا فشلٌ مخابراتيٌ فظيع، ولكن المفاجأة الثانية كانت أنّ المُقاومة ومحورها قد قطعوا كلٍ طرق الإنقاذ التي كان الصهاينة يلجؤون إليها في مثل هذه الحالات، ففي ظلّ البرود الأميركي والأوروبي قطعت المُقاومة كلّ طرق الضغط العربي والإقليمي التي كان يسلكها نتنياهو عقب كلّ مغامرةٍ، وهكذا ترك المُقاومون لسلاحهم فرصةً جيدةً لكي يرسل الإشارات التي تقول لقد تغيّرت قواعد الاشتباك وانتهى الزمن الذي يختاره العدو لبدء ولإنهاء أيّ عملٍ عسكري، كما انتهى الزمن الذي كانت به صواريخ المُقاومة عاجزةً عن تغطية كلّ الأراضي الفلسطينية المُحتلة.
من الواضح أن المُكاسرة السياسيّة التي جرت خِفيةً بين محور المُقاومة والمحور الآخر ليست أقلّ قوّةً وحرارةً من المُكاسرة العسكريّة المُعلنة بكلّ مفاصلها، فالأميركي ومن معه أدركوا صعوبة وضعهم واستحالة تحقيق نصرٍ يجعلهم في موقع من يملي الشروط، والمحور الآخر هو المنتصر رغم الخسائر، ولن يقبل بما كان يقبل به سابقاً.
نعم لقد انتهت هذه المعركة ولكن مفاعيلها سوف تستمر، وستسير المنطقة على إيقاع هذه المفاعيل، فسكّان الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" عام 1948م وبعد أن كانت تعتقد أنّهم تخلوا عن قضيتهم واندمجوا بالمجتمع الإسرائيلي أثبتوا عكس ذلك تماماً، وهذه مُعضلةٌ لن يستطيع الكيان تجاوزها مهما حاول. كذلك فإن الدول المُطبّعة والمراهنة على حماية "إسرائيل" لها ستُراجع حساباتها بعد أن تبيّن لها أنّ هذا الكيان هو أعجز من أن يحمي نفسه أمام فصائل فلسطينيّة مُحاصرة، وما من شكٍّ أنّ هذه المواجهة أرست قواعد ردعٍ لن تستطيع "إسرائيل" القفز فوقها بعد اليوم، كما هو الحال في جنوب لبنان، ولعلّ أحد أهمّ هذه المفاعيل هو القناعة التي وصل إليها المستوطنون وخاصّة سكّان المستوطنات القريبة من غزّة أو من الضفّة، بأنّ لا أمن لهم في مستوطناتهم وما عليهم سوى الرحيل باتجاه الداخل الذي يُشكّل بعض الأمان وليس كلّه، وليبقى أمانهم الوحيد مربوطاً بجواز سفرٍ وبقرارٍ عاقلٍ لِمن استطاع إلى ذلك سبيلاً.