عندما يغيب (القرار )


لم اتردد كثيرا عندما سمعت احد سائقي السيارات داخل گراج الحمزة الغربي بمحافظة بابل ينادي بصوت مكرر (بغداد بغداد ،،،) فقد اكد كثيرون ان الطريق الدولي سالك وامين .
انحشر داخل السيارة  نوع (كيا ) العدد الكافي من الركاب اغلبهم من طبقات بسيطة واعمار تتجاوز الخمسين سواء من الرجال او النساء .
البزة العربية هي السائدة والنساء في حشمة  تامة ويجلس الى جواري شاب هو الوحيد داخل العجلة وتبدو عليه الاناقة والترتيب بقميص وبنطلون .
السائق كإن صامتا على طول الطريق وصولا الى منطقة اللطيفية حيث واجهه رتل من مدرعات (قوات التحالف ) انذاك يتقدمهم عسكري يوميء للعجلات بالانحراف الى اليمين حيث طريق ترابي يقود الى مزارع المنطقة .
السائق استدار بسرعة فيما رفع من صوته وهو يردد عبارات مقلقة عن الارهاب والقتل والذبح 
وساعدته الارض الوعرة التي تهز العجلات بعنف باضافة قلق اكبر .
الركاب اضطربوا والجميع تيقنوا ان اتفاقا بين قوات التحالف والعناصر الارهابية قد تم لغرض قتل هذه الاعداد على الهوية ،وهي مناطق طالما الفت مثل هذه المجازر .
السائق ازداد اضطرابا وصوته بات يصل للجميع بان علينا ان نتهيء للموت وهو امر واقع لامحال .
العويل بدأ يتصاعد واختلط صوت النساء بالرجال ورجل مسن اخرج رأسه من النافذة يوصي ولده الاكبر خيرا باخوته وانتهى بعبارة (وداعة الله بوية وداعة الله )!
ناديت على السائق ان يتوقف فماالداعي باقتيادنا الى موت محتم لكنه واصل ولكن ببطء شديد لوعورة الارض .
الشاب الذي جواري  طلب مني ان احتفظ بمسدسه وهويته ،وهو في حالة انهيار .
اشتد العويل وتحول الى صراخ والسائق لايكف عن الهذيان عن القتل  والذبح والموت !
وقفت ودعوت السائق ان يتوقف بنبرة عالية واشبه بالامر فلم يتوقف .
الوجوه علتها الصفرة والاستسلام فيما كانت هناك زرقة تحت جلد الوجوه مخيفة .
التفتُ يمينا فشاهدت منازل تحاذي العجلة كأني شهدتها من قبل.
شاب يقف خلف المنزل يتابع حركة الطريق  وجدت فيه شبها مفرطا لزميلي في الجامعة (مطر ) فناديت عليه (شيصير منك مطر  عبد…. ) فرد بلهجة المنطقة (هذا عمي منين تعرفه )صرخت بالسائق صرخة غضب ان يتوقف فتوقف وهبطت سريعا للشاب وحييته.
هذا المكان زرته مع زملاء لي من الجامعة قبل (35) عاما لحضور زفاف زميلنا (مطر ) بدعوة منه ،وانفقنا نهارا سعيدا وكرما وحسن اخلاق لاربع ساعات ثم عدنا .
سألته عن الطريق وعن الارهاب وقلقنا ،فابتسم ابتسامة تشبه ابتسامة عمه كثيرا  واكد ان الطريق سالك وامامنا  قنطرة صغيرة نعبر منها ثم نستدير ونعود الى ذات الطريق الدولي من خلف هذه القوات ،ثم اشار الى عجلات سبقتنا والى اخرى من خلفنا ..
اسرة الشاب سارعوا بجلب الماء الى الركاب وحيوهم فودعته ودسست في جيبه (كارتي التعريفي) وسلاما حارا الى عمه .
حين استقامت بنا العجلة ،انقطع الحديث تماما بين الركاب ،وكان السائق اكثرنا صمتا 
فيما استعاد  الشاب بطاقته وسلاحه .
على الرغم من مرور اعوام على الحادثة الا ان مشاهد كثيرة تعيدني الى مراجعتها فقد شهدت يومها ان الانسان احيانا يساعد خصمه على قتله او النيل منه ،فقد تحسست يومها اننا لو حقا وقعنا بيد العناصر الارهابية لما كلفهم ان يقتلنا جميعا صبي توا امسك بسكين او بندقية .
كنت يوما قد طالعت كتابا عن دخول المغول الى بغداد عام (1258) ميلادي و(636)هجري حيث ينقل تاجر يوناني كان في بغداد لحظة اجتياح الجيش المغولي الى بغداد وقد اختبأ عند سطح الخان فيقول (كان مجموعة من المقاتلين المغول يدخلون المنازل باحياء بغداد وبستخرجون الشباب ويدفعون بهم الى طوابير  على نهر دجلة ،وعند رأس كل طابور يقف سياف مغولي امامه صخرة فيقطع الرأس ويدفع به والجثة الى النهر ،والغريب ان هؤلاء الشباب يصطفون بالطوابير دون ادنى حركة او التفكير بالفرار ،وشاء ان احد السيافين المغول قد قطع رأسا رفيعا فوقع سيفه على الصخرة فانكسر ،وذهب الى زملائه بعيدا ليجلب سيفا اخر ،فيما مازال اول شخص بالطابور منكسا رأسه ينتظر القطع وبينه وبين نهر دجلة الفائض بمائه ثلاثة اذرع )!
مشاهد كثيرة ومنها ماحدث مع شباب سبايكر 
وكيف اسلموا مصيرهم الى عدد قليل من الارهابيين .
ما اود ان اقوله ان على الامة ان تربي اجيالها بالمدارس وبالتدريبات العسكرية بكيفية التعاطي مع المواقف الحرجة وعدم الشعور بالاحباط والنكوص بالهزيمة المسبقة لان في ذلك نصرا لاعداء الامة ،كما لابد للاباء ان يلقنوا ابناءهم دروسا واحاديث وعبر تثبت ان المرء لابد ان يكون رابط الجأش متماسكا باصعب الظروف حفاظا على حياته ومصيره ومستقبله .واتذكر لي ابيات قديمة بهذا الشأن منها
(واعجبُ من هذا نساقُ الى الردى 
جموعاً ولاصوتٌ يردُّ ولا كفُّ

ولو قال (لا) فردٌ لردَّدَ بعده 
الوفٌ الى ان يعتلي سوحها العصفُ

ولكن رؤوا في الموتِ حلاًّ لامرهم
فمدوا رقاب الذل يحصدها السيف ُ)