العراق بعد عقدّين من الديموقراطية:التضحية بالدولة


ليس من غير المألوف أنْ يشكو العراق ، دولةً و شعباً ،من عهد الديكتاتورية وويلاتها ، ولكن أن تستمر شكوى العراق ، مصحوبة بمعاناة قاسيّة ،عميقة و طاغية على لقمة العيش ، وعلى المستلزمات الاساسية للحياة، وطاغية على الاخلاق و الكرامة والسيادة ، في عهدٍ و العراق موصوفٌ بالديموقراطية ، و بالتحرّر من الديكتاتورية ، يصبحُ هذا الامر  “امرا  غير مألوف” !
وكّلُ ما هو غير مألوف ، يدعو الى التوقف و الاستفهام ، ويستدعي اكثر من دراسة  ومحاولة لمعرفة الاسباب  واقتراح الحلول ،حيث يتحوّل “الأمر غير المألوف” الى ظاهرة سياسيّة  واجتماعية ، تُهدّد المجتمع  والدولة بالزوال .
 بعد تحّرر العراق من الديكتاتورية عام ٢٠٠٣ ، دخلَ العراق عهد ” الاحتلال و الفوضى ” ، ويبدو انه ( اي العراق ) كان حينها ، سياسياً و أجتماعياً  مُستعداً لكليهما ، اي للإحتلال  وللفوضى ، وكانا كلاهما “ثمن التخلّص” من الديكتاتورية .
كانَ بمقدور القوات الامريكية ان تحتل العراق ،بعد تحريرها الكويت في ١٩٩١/٢/٢٦ ، و لكنها لم تفعلْ ذلك. لماذا؟
لسببيّن احدهما تكتيكي  والآخر استراتيجي .
 السبب الاول هو رغبة الجوار العربي بالابقاء على نظام محاصر وضعيف، وخوف هذا الجوار من وجود نظام في العراق موال لايران . والسبب الثاني الاستراتيجي  هو عدم دراية الادارة الامريكية وعدم معرفتها الكافية ببنيّة و مزاجات واهداف  المعارضة العراقية ،والمنتشرة والموزعّة بين بريطانيا وايران  وسورية وبعض الدول الاوربية .
عقدٌ من الزمن كان كافياً للأدارة الامريكية ان تستكمل رؤيتها وادواتها كي تبدأ باحتلال العراق عام ٢٠٠٣. خلال السنوات العشر التي تلت تحرير الكويت ( عام ١٩٩١) ، استنتجتْ الادارة الامريكية ،من خلال متابعتها لمسار النظام السابق في العراق ، ومن خلال تعاملها مع المعارضة العراقية ،حقيقتّين:
الحقيقة الاولى  ان النظام السابق في العراق تعافى ، وأكّدَ من جديد قوته وسيطرته على العراق وادرك اخطاءه الاستراتيجية وبدأ يغازل اعداء الامس (سوريا و ايران خاصة) ، وهذا التوجّه من قبل النظام السابق ( صادقاً كان ام تكتيكاً منه ) لا يخدمُ مطلقاً المصالح المشتركة لامريكا ولاسرائيل ، فلا بُّدَ اذاً مَنْ التخلص منه قبل صلابة عودهِ و تنمّره من جديد ، وقبلَ ان يعيد بناء علاقات متينه مع ايران و مع سوريا .
الحقيقة الثانية هو ادراك وتأكّد الادارة الامريكية من حجم الخلافات و الانقسامات المكبوته والمتجذّرة في جسم وعقل المعارضة العراقية ، خلافات وانقسامات ذات طابع قومي (عرب ، كرد) وذات طابع مذهبي (شيعة ،سنّة) ، واخرى ذات طابع نفعي و مصلحي على صعيد الافراد والعوائل و العشائر الخ …
 تعايشت الادارة الامريكية والبريطانية و الدوائر الغربية الاخرى مع المعارضة العراقية وهي خارج السلطة فاستنتجت أنَّ ما يجمعهم هو هدف واحد لا غير ، الا وهو ازاحة واسقاط النظام السابق والوصول الى السلطة ، الى سدة الحكم ، وما يفرقهّم هو اكثر من خلاف ومصالح ، وأنَّ هذا الخلاف والتناحر والانقسام سيزداد وسيتفاقم عند تجمعهم على مائدة السلطة ، وستقوم الاجندات الخارجية بتفعيل دورها كي تستمر معارضة الامس وسلطة اليوم مهتمة بتقاسم منافع  ومكاسب السلطة دون الاهتمام ببناء الدولة والمجتمع .
  بعد ادراك امريكا وحلفائها هذه الحقائق ، اقدموا في عام ٢٠٠٣ على احتلال العراق ، رافعين ، زوراً ، شعارات الديموقراية والتمنية وبناء العراق ، وناصرهم في تضليل هذه الشعارات ، تجربة المعارضة في ممارستها الخاطئة للسلطة ومنذ ما يقارب عقدّين من الزمن.
 ما يعيشه العراق الدولة والشعب شاهدٌ على ما سعت اليه الادارة الامريكية ، و ما ارتكبته من اخطاء استراتيجية معارضة الأمس وسلطة اليوم ، تجاه العراق دولة وشعب.
ومن كبائر تلك الاخطاء هو التضحية بالدولة من اجل السلطة ، والتضحية بالدولة من اجل القومية ، والتضحية بالدولة من اجل الطائفة ،والتضحية بالدولة من اجل العشيرة ، والتضحية بالدولة من اجل العائلة او من اجل الشخص ، وكل هذه التضحيات و القرابين تُمّرّر وتعنّون باسم الديموقراطية  والحريات وحقوق الانسان.