ولم تكن الانتخابات مصيرية
لم يحصل تغير جذري في المشهد السياسي بعد اجراء الانتخابات العامة في العاشر من شهر تشرين الاول الماضي على خلاف توقعات البعض. فمازالت قواعد اللعبة كما هي، ومازالت القوى السياسية المتحكمة بالمشهد السياسي هي نفسها. نعم تغيرت اعداد نواب هذه القوى في مجلس النواب بعض الشيء، لكنه ليس تغيرا جذريا.
وهنا قد يسأل البعض: ماذا تقصد بالتغير الجذري؟
والجواب: ان اي تغير في المشهد السياسي لا يكون جذريا الا اذا تحقق امران، هما:
الامر الاول، ظهور كتلة برلمانية عابرة للمكونات، لان هذا يعني تغير القواعد المتعلقة بالتصويت، وهو امر متعلق بالسلوك الانتخابي للناخبين. مازال الناخبون يصوتون على اساس المكون وليس على اساس المواطنة. فالناخب الكردي يصوت فقط للمرشح الكردي، والناخب الشيعي يصوت للمرشح الشيعي، والناخب السني يصوت للمرشح السني. وهكذا. وهنا لا يوجه اللوم للاحزاب السياسية نفسها، وانما يوجه للناخب الدي لم يستطع ان يحرر نفسه من الانتماء للمكون، ولم يجعل انتماءه للمواطنة حاكما على ما غيره.
الامر الثاني، ظهور كتلة برلمانية "كبيرة"، تحصد ما لا يقل عن نصف عدد اعضاء المقاعد البرلمانية زائدا واحد. هناك خمس حالات لحجوم الكتل البرلمانية، هي: الكبيرة، المتوسطة، الصغيرة، الصغيرة جدا، المجهرية. وقد شرحت هذه القياسات في مقالات سابقة كما يلي:
١. الحزب الكبير (L) وهو الحزب الذي يملك اغلبية مطلقة مؤلفة من ١٦٦ نائبا على الاقل. وهذا هو العدد المطلوب لمنح الثقة للحكومة. (يكون عدد نوابه ١٦٦ فاكثر)
٢. الحزب المتوسط الحجم (M) وهو الحزب الذي يملك حوالي ثلث عدد مقاعد البرلمان اي ١٠٠ نائب، او (١٠٠- ١٦٥).
٣. الحزب الصغير (S)، الذي يملك نصف العدد المتبقي من المقاعد النيابية، اي ٣٢ مقعدا او (٣٢-٩٩).
٤. الحزب الصغير جدا (XS )، وهو الحزب الذي يملك نصف المقاعد المتبقية، اي ١٦ مقعدا او (١٦-٣١).
٥. الحزب المجهري microscopic party
وهو حزب صغير جدا جدا جدا لا يكاد يُرى بالعين السياسية المجردة في البرلمان او في الحياة السياسية عامة، وهو الحزب الذي يتراوح عدد نوابه من (١) الى (١٥) نائبا.
وبإمكان القارئ ان يطبق هذه المقاييس على عدد نواب الكتل الفائزة في الانتخابات، ليكتشف اننا لا نملك كتلة كبيرة ولا كتلة متوسطة؛ انما يوجد فقط احزاب صغيرة، واحزاب صغيرة جدا، واحزاب مجهرية. حتى التيار الصدري الذي يمثل الان لوحده الكتلة الانتخابية الاكثر عددا، فانه صغير الحجم بناء على هذه القياسات.
وهذا يمثل تراجعا في تطور الحياة السياسية والحزبية في العراق، حيث حصل سابقا ظهور كتلة متوسطة على الاقل. واليوم نفتقد حتى الحزب المتوسط.
هذا يعني ان المجتمع العراقي مازال يعاني المزيد من الانقسامات وعدم قدرة العاملين في الحقل السياسي على التجمع في كيانات اكبر. ولو كان على الوردي موجودا لقال ان سبب ذلك هو غلبة روح البداوة على سلوك المواطن العراقي. واقصد بذلك النزعة الفردية وعدم القدرة على التجمع في كيانات اكبر، حتى وان كانت على مستوى المكون وليس على مستوى المواطنة. ولم يُشرع قانون للاحزاب يساعد على القضاء على النزعة البدوية الفردية او على الاقل التخفيف من حدتها.
بغياب هذين المتغيرين، بقي المشهد السياسي على حاله، وبقي محكوما بنفس قواعد اللعبة القديمة، وهي قواعد متخلفة لا تساعد على قيام الدولة الحضارية الحديثة؛ فالمجتمع المتحضر الحديث هو الذي ينتج الدولة الحضارية الحديثة وليس العكس. وبقاء قواعد اللعبة نفسها يجعل تشكيل الحكومة، كما كان سابقا، صعبا، ومحصورا فقط في خيار الحكومة التوافقية المشكلة على اساس المحاصصة.
التعليقات