انكسار القَرن الأميركي وبزوغ الثُّرَيّا (آسيا)
إنَّ ملفات التراجع الأميركي على المستوى الجيوإستراتيجي ملفات كبيرة لا نستطيع اختصارها بمقال؛ ولأجل ذلك سنشير إلى عنواناتها، وربما غدًا نخصص لها المقالات، لنعرف كيف أنَّ العالم بدأ يتغيَّر، كيف بدأت إمبراطورية التفرُّد تنهار، وبدأ العالم المتعدد يظهر، إمبراطوريات الدولار والعنصرية (أميركا، أوروبا) تتصدَّع.
1- منظمة شانغهاي للتعاون (Shanghai Cooperation Organisation)، التي أسِّسَت في عام (2001) ودخل ميثاقها حيِّزَ التنفيذ في عام (2003)، منظمة دولية اقتصادية سياسية أمنية، تضم أكثر من نصف سكان الأرض.
تسعى هذه المنظمة إلى إدارة الاقتصاد ورسم النظام المالي ومِنْ ثَمَّ النظام العالمي الجديد. إنها (الثُّريا آسيا).
نُصِّبَت الجمهورية الإسلامية بصفتها عضوًا دائمًا في منظمة شانغهاي بتاريخ: 17-أيلول-2021، مِن هنا نقرأ بدء انهيار فكرة الجيوسياسي البريطاني (السير هالفي ماكندر) التي يقول بها (إنَّ أوروبا هي قلب العالم).
2- الهروب الأميركي من أفغانستان (قاعدة الأطلسي المتقدمة) بتاريخ: 31-آب-2021، الذي سوف يتبعه هروب أميركي من العراق بتاريخ: 31-كانون الأول-2021، ومن المؤكد هروب آخر من سورية… وهذه دلالات على بداية تصفير الوجود العسكري الأميركي في غرب آسيا، وفشل المشاريع الأميركية في غرب آسيا، وانطفاء الشعلة الأميركية الإستراتيجية في (منظومة البحار الخمسة)، واعتمادها على التكتيكات والمناورة في مسار (خفض سقوف الخسائر).
3- الفشل الذي مُنِيَت به فلسفة الحصار والعقوبات الأميركية، على يد الإمام القائد الولي الفقيه الخامنئي (دام ظله ووجوده)؛ إذ كسر الحصار على فنزويلا عام 2020 التي تمثل (الأبعد الأصعب)، ومِنْ ثَمَّ كسر الحصار على سورية ولبنان في هذا العام 2021 (وانتصرت الجمهورية الإسلامية في حرب البحار)
الولي الفقيه مُنطلِقًا في ذلك من فلسفته الفَذَّة عندما قال: (إبطال مفعول العقوبات أفضل من رفْعِها)
وهكذا صنع من آلية العقوبات الأميركية (آلة غير فاعلة)، حتى تجيء أميركا إلى أية مفاوضات سواءٌ أكانت حول الملف النووي أم غيره؛ وهي هادئة منزوعة المخالب والأنياب.
4- الاستدارة الأميركية عن أوروبا نحو (أستراليا)، مُعلنةً بذلك الحلف الإنجلوسكسوني من جديد، وهو يشمل: أميركا، بريطانيا، أستراليا (أوكوس - AUKUS)؛ إذ انسحبت أستراليا في أيلول 2021 من صفقة الغواصات التقليدية مع مجموعة (نافال) الفرنسية، لتتعاقد مع أميركا في صفقة غواصات نووية، وهنا نشير إلى خمس نقاط أساس:
أولًا: أميركا تؤسس لمشروع وعلاقة أمنية جديدة تشمل الثلاثي (AUKUS)، وهي محاولة بِغَضَّ الطرف عن الجدوى منها.
ثانيًا: أميركا تلتقط بريطانيا من قارة الثلج (أوروبا) وتهمل الآخرين بما فيهم فرنسا (العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي)! وفرنسا هنا بُطِشَ بها بطشةً كبرى.
ثالثًا: الحركة الأميركية - البريطانية تُعَدُّ تشييدًا محكمًا لتابوت الثنائي: الاتحاد الأوروبي، حلف الشمال الأطلسي (النيتو - NATO)؛ إذ لا قدرة لحلف النيتو (تحديدًا) على البقاء بصفته قوة عسكرية وازنة، هنا انتهى عمر حلف الشمال الأطلسي.
رابعًا: إنَّ حلف (AUKUS) أعلن خلْعَ الفرنسي والنيتو في 15-17/أيلول-2021 أي: اليوم نفسه الذي كانت به إيران تُتَوَّج في (طاجيكستان - دوشنبه) عضوًا دائما في منظمة شانغهاي للتعاون، بوفد إيراني برئاسة السيد إبراهيم رئيسي (رئيس الجمهورية الإسلامية)، وهذا يحمل دلالة محاولة الاستباق الأميركي لترتيب الملفات الكبرى.
خامسًا: هل ينجح الحلف الإنجلوسكسوني (AUKUS) ليكون القاطرة التي تجرّ حلف (كواد - QUAD) الذي أُسِّسَ قبل عقد ونصف شاملًا: أميركا، الهند، أستراليا، اليابان ودخل في سبات!، الذي بدوره يوقظ حلفَ (يوكوزا - UKUSA) الذي أُسِّسَ عام (1947) شاملًا: أميركا، بريطانيا، كندا، أستراليا، نيوزيلندا؛ أم هل يكون عامل ترهّل ارتدادي على المشكلات المالية والاقتصادية التي تعصف بداخل أميركا؟
5- المؤرخ والمفكر البريطاني (إريك هوبسباوم - Eric Hobsbawm) (1917-2012)، صاحب النظرية المتكاملة عن القرون، إذ إنَّ القرن عنده لا يتكون من (مئة عام)، ولكنه يقيس القرن بطول الصراعات: الفكرية، السياسية، العسكرية الفاعلة الحاكمة في زمنها، فهو يرى قرونًا طويلة وقرونًا قصيرة.
وعلى أصل نظرية المفكر إريك، والمعطيات التي ذكرناها في أعلاه، نجد الآتي:
أولًا: كُسِرَ (القرن الأميركي)، وهو الآن يتدلّى من أصله، ومسألة صراعه مع الجاذبية مسألة وقت، وإلا فالوهن أخذه وأثقله للأرض.
ثانيًا: فرنسا تسير بإيقاع ثابت نحو إخراجها من مجلس الأمن الدولي.
ثالثًا: مجلس الأمن الدولي، سيشهد تغييرًا بنيويًا في التأسيس، وسينهض اتحادٌ جديد تُشيِّدهُ قارة آسيا (منظمة شانغهاي للتعاون) لقيادة العالم بأنظمته: السياسية، المالية، الاقتصادية الجديدة، وهنا ينتهي (القرن القصير لمجلس الأمن) مثلما ينتهي (القرن القصير لأميركا) بالملازَمَة.
التعليقات