حلف بغداد يموت مرّتين


"ليت لنا حياتين: نرتكب في الأولى الأخطاء التي يبدو وكأنه لا مفرّ من ارتكابها، وفي الثانية نستفيد من هذه الأخطاء ".
هذه المقولة للكاتب البريطاني الشهير ديفيد هربرت لورانس، قالها منذ حوالي قرنٍ من الزمن، ولكن الساسة الأميركيين إمّا أنهم لم يقرأوها، أو أنهم فهموها بعكس ما قصد لورانس، فأصبحت لديهم "وفي الثانية نستعيد هذه الأخطاء ".

ما جعلنا نستذكر هذه المقولة  هي المُحاولة الأميركية الأخيرة بتحريك بعض الأدوات بحركةٍ توحي وكأنهم يحلمون بتشكيل حلف بغداد آخر، وهنا قد يكون من المُفيد أن نُذكّر بحلف بغداد الأول، الذي تشكّل عام ١٩٥٥م بهدف منع الامتداد السوفييتي، وبطبيعة الحال يُعتبر هذا الحلف من أقصر وأفشل الأحلاف، حيث أسقطه رجلٌ واحدٌ إسمه جمال عبد الناصر حين قاد معارضةً فاعلةً لهذا الحلف، ليلحق به الفريق عبد الكريم قاسم ورفاقه من الضباط العراقيين الأحرار عام ١٩٥٨م، حين أسقط قاسم ورفاقه مَلكيّة نوري المالكي وأعلن انسحاب العراق من الحلف، وتأتي الثورة الإسلامية الإيرانية عام ١٩٧٩م لتُجهز على الحلف بشكلٍ نهائيٍ، حين أطاحت برجُل أميركا القوي، الشاه محمد رضى بهلوي، وبالتالي أعلنت انسحابها.

نفس الحلف يُعاد إنتاجه حالياً ولكن مع تغييرٍ في بعض الأهداف، ليصبح هدفه الأول هو التصدي للامتداد الصيني - الروسي -  الإيراني، ولقطع طرق تواصل أطراف محور المقاومة من خلال قطع الطريق بين إيران وبين بقية الأطراف، كذلك مع تغيير في مواقع بعض الدول، بحيث تكون الأردن ومصر في مقدمة العاملين على إنشاء هذا الحلف.

لِنراقب أولاً دور الملك الأردني عبدالله الثاني في هذا التحرك، وهو الذي لم يستطع إقناعنا بأنه استيقظ ليكتشف بأنه يجب أن يعمل على عودة سوريا إلى الصف العربي، مع أن مملكته كانت ولم تزل مقراً للنفوذ الأميركي الذي ما زال يدير بعض خيوط المؤامرة على سوريا من داخل الأردن.
ولم تُضحكنا تلك النكتة الملكية الثَمجة حين قال، بأنه سيقابل الرئيس الأميركي ليطلب منه استثناء الأردن من المشاركة بالعقوبات على سوريا.
ما الذي حصل للرجل فجأة؟، فالمؤامرة على سوريا وعلى المحور المقاوم مُستمرةٌ ولم تهدأ، والشعب الأردني مُتعايشٌ مع حالة الفقر والعوز التي يعيشها منذ عقود، مع العلم أن الولايات المتحدة تستطيع رفع هذا الفقر بكلمةٍ واحدةٍ لدول النفط والمال، إذاً لا الوضع السوري، ولا الحالة الشعبية الأردنية هي وراء تلك الصحوة الملكية المفاجئة، ولا وراء ذلك التحرك النشط.

ولنُراقب ثانياً دور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يواكب بحركته حركة الملك الأردني، والذي يُظهر لنا بأنه أصبح حريصاً على لَمّ الشمل العربي، مُتناسياً أنه لم يقمْ منذ تسلّمه السلطة في مصر بأيّ عملٍ إيجابي تجاه القضايا العربية، فعلاقته مع حركات المقاومة في كلٍّ من فلسطين ولبنان بقيت ممهورةً بالخاتم السعودي، ولذا غابت القضية الفلسطينية عن أدبياته، وعن ممارساته، كما أنه سار بنفس نهج سلفه حسني مبارك، فبقي صمّام أمانٍ لإسرائيل في أيّ نزاعٍ مُسلحٍ ينشب بينها وبين المقاومة الفلسطينية، كذلك حافظ على موقفه المعادي للمقاومة اللبنانية، مع أنها مقاومة عربية، بوصلتها فلسطين، وهدفها حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، وتحرير ما تبقى من أراضٍ عربيةٍ مازالت تحت الإحتلال.
بل ذهب الرئيس السيسي إلى أبعد ما ذهب به أسلافه، حين أرسل قطعات من الجيش المصري، وبأمرٍ سعودي، لقتال اليمنيين داخل أراضيهم. 
وعندما اجتاح تنظيم داعش أجزاءً واسعةً من العراق عام ٢٠١٤م، كان ذلك بتصنيعٍ وبتخطيطٍ أميركيين، وبتمويلٍ وبدعمٍ سعوديين، وبصمتٍ مصري مُطبق.
أمّا فيما يخصّ الحرب شبه العالمية على سوريا، فقد بقي على مواقف أسلافه ولم يقمْ بأيّة خطوةٍ قد تُساعد على إنهاء هذه الحرب، أو تساعد على تغيير بعض المواقف الخليجية والعالمية المُعادية للحكم الوطني السوري، أو تساعد في التقليل من معاناة الشعب السوري الذي أنهكته العقوبات والحصار الأميركيين.
وحتى الجغرافيا المصرية لم تسلمْ من تبعات رضوخ الرئيس المصري للنفوذ السعودي، حيث أقدم على التنازل للسعودية عن جزيرتي صنافر وتيران المصريتين، لتكونا صِلة وصلٍ مباشرة للمملكلة مع الكيان الصهيوني.

وكما أن الملك الأردني يُجيد إطلاق النُكَت الثمجة فالرئيس المصري يجيدها أيضاً، بدليل وعده لسعد الحريري، حين كان مُكلفاً بتشكيل حكومةٍ في لبنان، بأنّ مصر ستمدّ لبنان عبر الأردن وسوريا بالكهرباء وبالغاز، بمعنى أنه هنا يستطيع كسر القوانين والعقوبات الأميركية أمّا في الضائقة السورية فلا حول له ولا قوّة.

قد تكون هذه التحركات هي نتيجة تقاريرٍ اعتمدتها الإدارة الأميركية، والتي تخلص إلى أن سوريا ولبنان المُقاوم قد أصبحا على استعداد لتنفيذ الطلبات الأميركية القديمة المتجددة، وذلك نتيجة الوضع الإقتصادي والمعيشي الصعبين لكلا البلدين، وبالتأكيد سيكون في مقدمة تلك الطلبات التخلي عن محور المقاومة، والمُباشرة بمفاوضات سلامٍ مع "إسرائيل "، وما من شكٍّ أنّ هذه التقارير قد صيغت من باب الأمنيات لا من باب الواقع، كما في حالاتٍ كثيرةٍ سابقةٍ، مثل التقارير التي كانت تقول أن " نظام الحكم " في سوريا سيسقط خلال أسبوعين على الأكثر.

خِتاماً، لو صحّت قراءتنا لهذا التحرك الجديد سيكون تحركاً قد ولد ميّتاً، أو أنه لن يولد أصلاً، لأنّ المعطيات على الأرض تختلف عن تقاريرهم، فالوضع محسومٌ من قِبل جميع أطراف محور المقاومة، وإن كانت الولايات المتحدة ومن معها يراهنون على دورٍ لرئيس الوزراء العراقي الذي يميل لصالح هذا التحرك، فإن في العراق قوىً مُقاومةً قادرةً على نسف هذا التحرك وإفشاله وقتما تشاء.