الأهوار ودجلة والفرات ...

بين الإجحاف الإقليمي والقانون الدولي


مقدمة

ليس من المبالغة أن نقول إن تجفيف نهري دجلة والفرات، إن حدث، ومن ثم نهر شط العرب في أقصى جنوب العراق هو أكبر تحول «جيوبوليتيكي» في تاريخ العراق والمنطقة منذ فجر التاريخ المدون وغير المدون. فقد كان حوضا النهرين موقعًا لحضارات العالم الأولى قبل أكثر من عشرة آلاف عام، ومن بينها الحضارة السومرية والأكدية والبابلية في وسط العراق والآشورية في شماله، والحضارة الإسلامية العباسية في كل العراق.

نعلم جيدًا أن الشعب العراقي يعيش على شواطئ النهرين وروافدهما ومصبهما، ويكفي أن نشير إلى أن طول نهر دجلة منذ دخوله الأراضي العراقية عند مدينة فيشخابور في أقصى شمال العراق إلى توحده مع نفر الفرات عند مدينة القرنة في محافظة البصرة الجنوبية يبلغ  1400 كيلومتر، ليكونا نهر شط العرب الذي يصب في الخليج العربي بعد رحلة تستمر ۱۲۰ كيلومترًا. وتصب في دجلة خمسة روافد بعد دخوله من تركيا إلى الأراضي العراقية هي الخابور والزاب الكبير والزاب الصغير والعظيم وديالى، ومنبع معظمها من جبال كردستان العراق وإيران، وتم تحويل مسارات بعضها إلى الداخل الإيراني. أما منبع دجلة فهو من جبال طوروس جنوب شرقي تركيا. وتقع على هذا النهر وروافده أغلب محافظات العراق، بينما تقع بقية المحافظات على نهر الفرات وفروعه، والمحافظة الوحيدة التي تقع على شط العرب هي البصرة.

يغذي دجلة والفرات قبل توحدهما في منطقة القرنة مساحات شاسعة من الأهوار العراقية التي تفصل بين العراق وإيران في تلك المنطقة، وهي أهوار عراقية كلها ومشمولة بحماية منظمة «اليونيسكو» منذ عام 1914. وهذا يعني مسؤولية «اليونيسكو» عن هذا الموقع التراثي النادر ومنع اندثاره، وإبعاد أي أخطار تهدده باعتباره تراثًا ثقافيًا وطبيعيًا له قيمة عالمية متميزة، فضلًا عن فرادته في بيئته وأسماكه وطيوره وزراعاته ووسائل النقل فيه، وبيوته الطافية على المياه ومدارسه السابحة في النهر. وتعهدت «اليونيسكو» بالمشاركة في حماية وإدارة مناطق الأهوار هذه وإحيائها والحفاظ على طبيعتها وتزويدها بالخدمات التي تجعل منها مناطق جذب سياحي عالمية.

لقد وصفت «اليونيسكو» منطقة الأهوار العراقية لدى الإعلان عن إدراجها في قائمة التراث العالمي بأنها ملاذ تنوع بيولوجي وموقع تاريخي لمدن وحضارة بلاد ما بين النهرين، وذات أهمية استثنائية تضعها ضمن كنوز العالم التي يصبح الحفاظ عليها وإدامتها من الأولويات الإنسانية والثقافية. وشملت القائمة أربعة أهوار عراقية متداخلة ومتجاورة، هي: الأهوار الوسطى وهور الحمار الغربي (بفتح الحاء وتشديد الميم) وهور الحمار الشرقي وهور الحويزة. وكانت أجزاء حدودية من هذه الأهوار ساحة لمعارك طاحنة في الحرب (العراقية - الإيرانية) (۱۹۸۰ – ۱۹۸۸). ثم لجأ العراق قبل الاحتلال الأميركي في عام ۲۰۰۳ إلى تجفيف بعض مساحاتها لأسباب أمنية وعسكرية. وحاولت الحكومات التي أعقبت النظام السابق إعادة ضخ مياه دجلة والفرات إلى الأهوار، لكنها ما لبثت أن توقفت عن ذلك. وتسبب قرار التجفيف بكارثة بيئية في المنطقة التي كانت تعتبر مزرعة كبرى للأسماك والحيوانات البرية الأليفة، كالجاموس الأسود والطيور المحلية والمهاجرة بين القارات.

مما لا شك فيه أن العراق اليوم على حافة كارثة تاريخية وحضارية وإنسانية وبيئية بقرار تركيا تحويل مياه نهر دجلة إلى داخل أراضيها التي ينبع منها لملء «سد اليسو»، ما يعني تجفيف نهر دجلة وتحويله إلى ساقية»، ومن ثم موجة كبرى من التداعيات التي تشمل هجرة السكان وراء المياه الشحيحة وموت آلاف البساتين والمزارع وهجرة الطيور ونفوق الأسماك وحيوانات الأهوار البرية، وذبول حضارة لا مثيل لها في عراق ما بين النهرين، وتحول بغداد والمدن المستلقية على طول نهر دجلة وشط العرب والأهوار إلى قرى وسواق سادت ثم بادت.

إن حماية أهوار العراق تستدعي حماية ديمومتها وضمان استمرار تدفق مياه نهر دجلة وروافده التي حولتها إيران إلى داخل أراضيها. وهناك سوابق قامت بها «اليونيسكو» لحماية الأنفار التاريخية أو النادرة من العبث أو الإزالة أو تحويل مساراتها، كما حدث مع نفر سالوين مثلا، وهو حر في آسيا الوسطى تتشاطأه الصين وبورما وتايلاند واعتبرته «اليونيسكو» أحد مواقع التراث العالمي المحددة من قبلها التي تستوجب الحماية من الأخطار أو التعدي. فإذا كانت الأمم المتحدة قد اعتمدت قرار «اليونيسكو» بحماية الأفلاج، وهي طريقة قديمة للري لجأت إليها سلطنة عمان والإمارات لشحة مياه السقي، فماذا نقول عن نهري دجلة والفرات المهددين فعلا وليس تنظيرية بالتجفيف المتعمد وإخراجهما من التاريخ البشري الحي وتحويلهما إلى ملحق الليالي ألف ليلة وليلة؟!.

لقد برزت أزمة المياه في العراق لأول مرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي إبان حكم (البكر - صدام) ذلك إثر إنجاز بناء أحد السدود الضخمة في تركيا وتخزين المياه فيه، كما رافقه توتر سياسي في العلاقات بين العراق وسوريا)، وقد بلغ نقص المياه في نهر الفرات حدا كبيرا بسبب العجز في الميزان المائي والخلل بين العرض والطلب المتزايد على المياه وحدثت فجوة مائية حادة وصلت حد الأزمة. يقال حينها أن من وقف في تلك الفترة وفي أحد الأيام عند ضفاف نهر الفرات في مدينة الكوفة فوجئ بأن العديد من الصبية يعبرون النهر بين الضفتين ويلعبون على الأرض اليابسة التي برزت وسط النهر بشكل واضح للعيان بسبب نقص حاد في منسوب المياه بعد أن كانت مياه نهر الفرات تفيض بالخير العميم وتنعش مناطق العراق من البساتين والمزارع والنخيل والأهوار في الوسط والجنوب.

بدون شك، فإن العراق ورث منذ سقوط حكم صدام مشكلات عديدة ليس من السهل حلها أو التخفيف من آثارها. فقد خاض النظام السابق حروبا عبثية ضد إيران وضد دولة الكويت ونتج عن ذلك حملات دولية لاسقاط النظام في (9 أبريل/ نيسان ۲۰۰۳). وهذا الانشغال في صنع الأعداء والحروب الداخلية والخارجية أدى إلى ضياع حقوق العراق بفعل تجاوزات دول الجوار عليه، وبسبب صرف مبالغ خيالية من جانب ذلك النظام على التسليح بدلا من بناء السدود والمستشفيات وصناعة الكهرباء والزراعة والاستثمارات والتنمية الاقتصادية.

وإذا كان صلب موضوعنا ينصب على قضية المياه فقط، فإن الغاية من هذه السطور ليس ايجاد الحلول السحرية لأزمة المياه في العراق بل هو مجرد دق جرس الإنذار للحكومة وللمسؤولين العراقيين لهذه الكارثة الأطراف المتشاطئة، وعدم هدر المياه في الخليج وسوء الاستخدام. على أن يتم إيداع وثائق هذا الاتفاق لدى الأمم المتحدة والمنظمات ذات العلاقة وتسجيل نهري دجلة والفرات ضمن الأثار التي تحميها منظمة «اليونيسكو».

وإذا كان صلب موضوعنا ينصب على قضية المياه فقط، فإن الغاية من هذه السطور ليس ايجاد الحلول السحرية لأزمة المياه في العراق بل هو مجرد دق جرس الإنذار للحكومة وللمسؤولين العراقيين لهذه الكارثة التي يواجهها مستقبل العراق وأجياله المغلوبة على أمرها، ولضياع حقوق العراق في مياه نهري دجلة والفرات التي تشاركه فيهما كل من تركيا وسوريا، ولممارسات إيران غير القانونية في التجاوز على حقوق العراق في المياه في الحدود الشرقية.

هي مشاهد صادمة لدجلة والفرات توضح مدى انخفاض منسوب المياه فيهما بشكل مثير للقلق، فما الذي يحصل؟. لا شك أنفا كارثة بيئية تحل بالرافدين؛ دجلة والفرات ومعهما أهوار العراق .. فما القصة؟.