“حرب الرئاستين”.. من “الوثيقة الدستورية” إلى “الطائف”
خمس عشرة سنة استغرقتها الحرب اللبنانية الضروس، من بينها أربع عشرة سنة، كان يمكن إسقاطها من وقائع الحرب، لو ذهب اللبنانيون إلى تبني "الوثيقة الدستورية" كمدخل أساسي لوقف الحرب وإعادة النظر بتوزيع الصلاحيات. في مساء السبت الواقع في الرابع عشر من شباط/فبراير 1976، أطلق رئيس الجمهورية الأسبق، سليمان فرنجية، بيانا تم الإصطلاح على تسميته في دفاتر السياسة والأحوال اللبنانية بـ”الوثيقة الدستورية”، وتضمنت إجراء إصلاحات سياسية ودستورية، على الشكل التالي: ـ 1: “توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيا ضمن كل طائفة”. ـ 2: “انتخاب رئيس الوزراء من قبل المجلس النيابي بالأكثرية النسبية، ثم يقوم بإجراء المشاورات البرلمانية لتشكيل الوزارة، ويتم وضع لائحة بأسماء الوزراء بالإتفاق مع رئيس الجمهورية، وبعدها تصدر المراسيم”. ـ 3: “اعتماد أكثرية الثلثين بمجلس النواب لتقرير القضايا المصيرية وأكثرية 55 في المائة لإنتخاب رئيس الجمهورية في الدورات التي تلي الدورة الأولى”. ـ 4: “وضع نص يجعل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء مسؤولين، وإنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء”. ـ 5: “إصدار جميع المراسيم ومشاريع القوانين بالإتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وتحمل توقيعهما، ما عدا مرسومي تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالة الوزارة وإقالتها”. ـ 6: “يتمتع رئيس الوزراء بجميع الصلاحيات التي يمارسها عرفا”. المواد الأخرى، المرتبطة بإصدار المراسيم والقضاء واللامركزية الإدارية ومجلس التخطيط وقانون الجنسية والسياسة الدفاعية للجيش وغيرها، لا داعي لإيرادها، لكونها تندرج في سياق الإصلاحات العامة الخارجة عن قواعد العلاقة بين الرئاستين الأولى والثالثة. وانطلاقا من المواد الواردة في “الوثيقة الدستورية”، سيلاحظ ان نسبة كبيرة من روح “الوثيقة” حلت في “دستور الطائف”، تماثلا أو تجسيدا أو تشبيها أو استنساخا، ومنها على سبيل المثال: ـ تقول المادة 24 من الدستور اللبناني بعد تعديلات عام 1990، “إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ـ نسبيا بين طوائف كل من الفئتين ـ نسبيا بين المناطق”، وبإستثناء النسبية بين المناطق، فما نصت عليه المادة 24، ورد في الفقرة الأولى من “الوثيقة الدستورية”. وأما الفقرة الثانية من “الوثيقة” التي نصت على إنتخاب رئيس مجلس الوزراء من قبل أعضاء مجلس النواب، فهي تعادل الفقرة الثانية من المادة 53 من “دستور الطائف” التي تنص على أن “يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استنادا إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميا على نتائجها”.
والفقرة السادسة من “الوثيقة الدستورية” القائلة بأن “يتمتع رئيس الوزراء بجميع الصلاحيات التي يمارسها عرفا”، فهي تعني تحويل الأعراف التي يمارسها رئيس الحكومة إلى صلاحيات، وتلك نقلة نوعية أتت بها “الوثيقة الدستورية”، لتفتح المجال أمام تحويل رئيس الوزراء من وزير يتم تعيينه رئيسا من بين الوزراء، كما كانت تنص المادة 53 قبل التعديلات الدستورية عام 1990، إلى كون “رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يمثلها ويتكلم بإسمها، ويُعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسات العامة التي يضعها مجلس الوزراء”، مثلما جاء في مقدمة المادة 64 بعد التعديلات الدستورية، أو في الفقرة السابعة من المادة نفسها التي تقول إن رئيس مجلس الوزراء “يتابع أعمال الإدارات والمؤسسات العامة، وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل”. وإذا كانت “الوثيقة الدستورية” قد نصت على أن يضع رئيس الحكومة المكلف لائحة بأسماء الوزراء بالإتفاق مع رئيس الجمهورية، فإنها دعت أيضا إلى وضع نص يجعل رئيسي الجمهورية والوزراء مسؤولين، وهذا يعني أن من يتولى السلطة الإجرائية يخضع للمساءلة والمحاسبة. طبعا، لم يأتِ “دستور الطائف”، على اللائحة الوزارية التي يقدمها رئيس الحكومة المكلف إلى رئيس الجمهورية، ولا اقترب من النص الذي يجعل رئيس الجمهورية مسؤولا، صحيح أن المادة 60 والمعطوفة على المادة 80 من الدستور الحالي، تتحدث عن محاكمة رئيس الجمهورية “عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى” من خلال اتهام ثلثي اعضاء مجلس النواب له، ومن ثم محاكمته أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إلا أن هاتين العلتين كما يسميهما الدستور، خاضعتان لتأويل مفتوح ومعقد، فيما مسؤولية رئيس الجمهورية اثناء ممارسته السلطة الإجرائية، لا يقترب منها الدستور لا من قريب ولا من بعيد، وعلى النقيض من ذلك، فالمواد الدستورية تنص بوضوح على مسؤولية رئيس مجلس الوزراء، أو مؤسسة مجلس الوزراء، وبالتحديد في المادتين 64 و65 مع كل فقراتهما.
ألا يعني ذلك شيئا؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، قد يكون من الضروري القول، لو أنه جرى اعتماد “الوثيقة الدستورية” في عام 1976، مع تعديلات او تطويرات عليها، ربما كان اللبنانيون قد أقفلوا أبواب الحرب بعد أشهر قليلة من اندلاعها في نيسان/ابريل 1975، وفي الحال الراهنة، تبدو العلاقة المعقدة بين الرئاستين الأولى والثالثة، تستعيد آليات الصراع قبل الحرب المشؤومة، وكل ذلك، يطرح على بساط البحث، الحدود الفاصلة بين صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة، وحيال ذلك يمكن أن يذهب النقاش إلى: ـ أولا؛ من “اتفاق” الرئيسين على تشكيل الحكومة:
وفقا للفقرة الرابعة من المادة 53، رئيس الجمهورية “يصدر بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة”، وفي الفقرة الثانية من المادة 64، أن رئيس مجلس الوزراء “يجري استشارات نيابية لتشكيل الحكومة، ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”. السؤال الناتج عن ذلك: ماذا يعني “اتفاق” الرئيسين؟ هل يعني الشراكة في التأليف؟ وتاليا في تحمل المسؤولية؟ واستطرادا في خضوع الرئيسين للمساءلة والمحاسبة طالما أنهما شريكان في التأليف والمسؤولية؟ تلك اشكالية تندلع على أرضها “الحرب” الحالية، بين تياري “المستقبل” و”الوطني الحر”، وفي حين أن الثاني يقول إن رئيس الجمهورية ليس “باش كاتب” في النظام السياسي اللبناني، فهو رأس هرمه، فإن الأول يعتبر أن رئيس مجلس الوزراء ليس “موظفا” لدى رئيس الجمهورية، وليس وزيرا من بين مجموعة الوزراء الذين يعينهم رئيس الجمهورية ويختار رئيسا من بينهم مثلما كانت الأوضاع قبل عام 1990، فصلاحيات رئيس الجمهورية جرى تجييرها إلى سلطة مجلس الوزراء بعد “الطائف”، وعلى هذا الأساس لا عودة إلى ما قبل “الطائف” ولا إلى ما قبل “الوثيقة الدستورية”. ـ ثانيا؛ من الدستور ونصوصه: بحسب المادة 17 “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وهو يتولاها وفقا لأحكام الدستور”، ومثل ذلك تقول المادة 65 “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وهو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة”. وتنص المادة 49 على أن “رئيس الجمهورية يرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”، وتقول المادة 52 “يتولى رئيس الجمهورية عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالإتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء”، وفي الفقرة الأولى من المادة 53 “يترأس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء عندما يشاء، دون أن يشارك في التصويت”، وفي الفقرة 12 من المادة نفسها، فرئيس الجمهورية “يدعو مجلس الوزراء استثنائيا كلما رأى ذلك ضروريا، بالإتفاق مع رئيس الحكومة”، وفي المادة 55 “يعود لرئيس الجمهورية الطلب إلى مجلس الوزراء حل مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة، فإذا قرر مجلس الوزراء بناء على ذلك، حل المجلس، يصدر رئيس الجمهورية مرسوم الحل”.
في المادة 56، يمكن ملاحظة قوة سلطة مجلس الوزراء، فقد ورد في منطوق المادة عينها، لرئيس الجمهورية “حق الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال خمسة عشر يوما من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية، وإذا أصر مجلس الوزراء على القرار المتخذ، أو انقضت المهلة دون إصدار المرسوم أو إعادته، يُعتبر القرار أو المرسوم نافذا حكما ووجب نشره”. وتظهر قوة مجلس الوزراء اكثر وضوحا وجلاء في المادة 65، حيث من صلاحياته “وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ـ السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة ـ الإشراف على كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية بلا استثناء”. وفي فقرات أخرى أيضا، تشرح المادة 65 مهام وصلاحيات مؤسسة مجلس الوزراء بما يبرز قوتها وسلطتها الإجرائية في ما يتعلق بالمواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء الحكومة: تعديل الدستور ـ إعلان حالة الطوارىء وإلغاؤها ـ الحرب والسلم والتعبئة العامة ـ الإتفاقات والمعاهدات الدولية ـ الموازنة العامة للدولة ـ الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى ـ تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها ـ التقسيم الإداري ـ حل مجلس النواب ـ قانون الإنتخاب ـ قانون الجنسية ـ قوانين الأحوال الشخصية ـ إقالة الوزراء. عملياً، جيّر “دستور الطائف” السلطة الإجرائية إلى مؤسسة مجلس الوزراء، وأما رئيس الوزراء، “يُعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسات العامة التي يضعها مجلس الوزراء” وهو نفسه “يطرح سياسة الحكومة العامة أمام مجلس النواب”، كما نصت المادة 64. وعلى أساس هذه القواعد الدستورية، تعيد التساؤلات والإشكاليات طرح نفسها على نفسها، ابتداء من معنى “الإتفاق” بين رئيس الجمهورية وبين رئيس الحكومة المكلف، على إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، وعما إذا كان الإتفاق يساوي الشراكة، مرورا بإعتبار رئيس الحكومة يمثل الحكومة ويتكلم بإسمها ومسؤول عن تنفيذ سياسات مجلس الوزراء، وصولا إلى ترؤس رئيس الجمهورية الجلسات الوزارية من دون المشاركة بالتصويت، وكأن الدستور جعل مقام رئاسة الجمهورية “مترفعا” عن المشاركة في القرار الحكومي أو مشرفا عليه ومصوبا إياه، وانتهاء بمثول الحكومة ورئيسها أمام مجلس النواب، لكون رئيس الحكومة مسؤول عن تنفيذ سياسة الحكومة، ولكون الحكومة مناط بها السلطة الإجرائية. هل من نصوص دستورية أخرى، أو هل يوجد “كتاب” غير هذا “الكتاب” كما كان يحلو للرئيس فؤاد شهاب أن يسمي الدستور؟ كثيرون “يجتهدون” في تفسير الدستور، فيقلبون التفسيرات صلاحيات، في حين أن غاية التفسيرات تقديم إيضاحات حول المواد الدستورية الملتبسة، وهذا أمر معمول به في مختلف دول العالم، إلا عندنا بالطبع. رب سائل يسأل: في لبنان من يلتزم بالدستور؟ لهذا الصنف من السائلين يقال: هذا سؤال في صميم الصواب، ولكنه صواب سلبي، متى كان الصواب سلبيا؟
المصدر:
180Post.com
التعليقات