السؤال الجوهري: من يحكم؟ وليس فقط كيف يحكم؟!
امتلأ القرآن والأحاديث النبوية كما الدساتير وما كتبه الفلاسفة والحكماء ومواثيق حقوق الإنسان الدولية بالوصايا التي تحث على العدل والرحمة والإنصاف.
أما عن الخطب التي يلقيها الملوك والرؤساء وما فيها من حكم ومواعظ وتأكيدات على هذه الأشياء فحدث ولا حرج!!.
صحيح أن وعاظ السلاطين لديهم قدرة فائقة على الالتواء وتحريف الكلم عن مواضعه وتفريغه من مضمونه، فإذا ذكرت لهم وثيقة عهد الأشتر وما جاء فيها من قيم ومبادئ قالوا: نحن أيضا نؤمن بهذه القيم والمبادئ إلا أن الظروف والأوضاع المواءمات والملاءمات تحتم على الحاكم الحريص على مصالح أمته أن يمارس بعض الاستثناءات وهكذا حتى تصبح الاستثناءات هي القاعدة والقاعدة هي الاستثناء!!.
خلاصة القول أن الغالبية العظمى من بيانات وتعهدات الحكام في شرق الأرض ومغربها ينطبق عليها قوله تعالى (لم تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)!!.
الْحَقُ، كما يقول الإمام علي ع: (أوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ).
المعنى أن الله تبارك وتعالى صاحب الشريعة أمر بأشياء ونهى عن أخرى لأنه –سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا!!- ليس لديه اطلاع كاف!؟ على أحوال البشر، رغم قوله تعالى (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟!.
في الغرب (الديموقراطي) وُضع نظام يكفل الفصل بين السلطات لئلا تفتئت سلطة –افتئاتا مطلقا- على أخرى إلا أنه من الضروري أن ندرك أن الأمور ليست سائبة بحيث يمكن الخروج عن المسار المرسوم تماما لتبقى هناك مساحة من التغيير والتبديل تلبية لرغبات الجماهير الآنية أما التغيير الكلي فهو أمر محال أو بعيد المنال.
المسألة الأهم أن سؤال (من يحكم؟) لا يعني بالضرورة اسم الحاكم أو الخليفة بل يتعلق بالفئةأو (العصابة) التي تملك القوة –حسب وصف ابن خلدون- ويستند إليها ذلك الحاكم في إدامة ملكه وتنفيذ سياساته.
النواة الصلبة للسلطة الأموية هي ذاتها قريش التي نصبت حربها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع بقوله: مَا لِي وَلِقُرَيْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ وَاللَّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حِيزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ :
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ الْمَحْضَ صَابِحاً * وَأَكْلَكَ بِالزُّبْدِ الْمُقَشَّرَةَ الْبُجْرَا
وَنَحْنُ وَهَبْنَاكَ الْعَلَاءَ وَلَمْ تَكُنْ * عَلِيّاً وَحُطْنَا حَوْلَكَ الْجُرْدَ وَالسُّمْرَا
وقوله عليه السلام: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ)!!.
شكلت تلك التجربة شاهدا على أن الاستحقاق ليس كافيا لتبوء المكانة التي يستحقها القائد والتي لا تليق لغيره دون أن تكون هناك نواة صلبة متماسكة قادرة على الصمود خلف هذه القيادة وهو الأمر الذي ما زال استثناء حتى الآن.
التغيير الجذري للنظم والأوضاع السياسية والاجتماعية في الدول لا يحري كل بضعة عقود ولا أعوام أو حتى قرون بل يحتاج دوما إلى حقب والحقب تتكون من عدة قرون وحصول هذا التغير رهن بأحداث جسام تتجاوز الاستراتيجيات ربما بما فيها الحروب العالمية ولذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ وَلَمَعَ لَامِعٌ وَلَاحَ لَائِحٌ وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ وَاسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً وَبِيَوْمٍ يَوْماً وَانْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ)، والمعنى أن التغيير الحقيقي ليس متوقفا على استبدال قوم بقوم بل زمان بزمان ومناخ بمناخ مغاير وهكذا!!.
خلاصة القول أن الحكومة العادلة أو الجائرة ليست وظيفة شخص بمفرده وإلا فليخبرنا أحدهم هل كان بوسع ابن آكلة الأكباد أن يؤسس امبراطورية على نسق الإمبراطورية الرومانية دون الاستعانة بابن النابغة وزياد وسمرة ابن جندب ودون وجود أناس مثل أبو موسى الأشعري وابن عمر وغيرهم من القاعدين ممن (خَذَلُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ)؟!.
أليس يقولون (لكل زمان دولة ورجال)؟!.
فمتى يأتي رجال الزمن الآتي؟!.
التعليقات