بريطانيا والطريق إلى المجهول


إن أردنا أن نتأكد أن الغباء ظاهرة عالمية، لا تُفرّق بين لون أو منطقة أو جنس، فلن يأخذ الموضوع منا إلا أن ننظر شرقا،ً لنرى كراسٍ يملؤها الغباء، وإن اعتقدنا لوهلة أن هذه الظاهرة محصورة بالشرق، فما علينا إلا أن ننظر غرباً لنرى أمثلة كثيرة عنها، ولعل المثال الأحدث والأوضح عن هذه الظاهرة هو بوريس جونسون، الرئيس السابق لحزب المحافظين في المملكة المتحدة، والذي يقترب بسرعة من لقب رئيس الوزراء السابق، ولكي نستطيع الإحاطة بما فعله جونسون حين سلّم مقاليد قرار وطنه للأميركي، لا بد من المرور على تاريخ العلاقة بين كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

 

● تاريخ العلاقة البريطانية الأميركية

يأتي في مقدمة أسباب متانة العلاقة البريطانية الأميركية هو ما يربط الدولتين من عوامل مثل، التاريخ المشترك، والتداخل في الدين، ونظام اللغة، والنظام القانوني المشترك، وروابط القرابة التي تعود إلى مئات السنين، فمنذ أوائل القرن العشرين أكدت الدولتان متانة علاقتهما السياسية حيث اعتبرتاها "أهم شراكة ثنائية"، وذلك بحسب الأدبيات السياسية لكلتا الدولتين، ومن ثم أتى العامل السياسي ليقوي تلك العلاقة، هذا العامل الذي تعزز أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن تُمنح لقب "العلاقة الخاصة"، والتي كان يؤمل منها أن تكون "حجر الزاوية للنظام العالمي الحديث والديمقراطي"، كما وصّفها المؤرخ الإنكليزي بول جونسون، ومن المُلفت أن يكون الرؤوساء الأميركيين، ورؤوساء الوزراء البريطانيين، على علاقة شخصية متينة خلال فترة تواجدهم في سدة الحكم، كعلاقة فرانكلين روزفيلت مع ونستون تشرشل، ورونالد ريغان مع مارغريت تاتشر، ومؤخراً دونالد ترامب مع بوريس جونسون

 

● العلاقة البريطانية الأميركية خلال العقد الأخير

لعل الهدف الأميركي الأساسي تجاه بريطانيا خلال السنوات العشر الماضية كان تشجعيها، بل دفعها، على الخروج من الإتحاد الأوروبي، وهنا نستطيع أن نتكهن بعدة أسباب لذلك، ولكن لا نستطيع الجزم بأي سبب، وإن كان العمل الأميركي على إضعاف الإتحاد الأوروبي هو السبب الأكثر ترجيحاً، والدفع الأميركي لخروج بريطانيا كان واضحاً، عبر تركيز الرئيس الأميركي السابق دولاند ترامب وفريقه على ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، خلال أحد المؤتمرات في شهر آيار/مايو 2019، يُعلن أن الولايات المتحدة تريد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان ترامب يذهب خطوة أبعد في هذا السياق، ويُعلن في المؤتمر ذاته، أن الولايات المتحدة وبريطانيا ستتوصلان إلى إتفاق تجاري، "مهم للغاية ومثير للإعجاب"  على حد تعبيره، بعد إتفاقية "بريكست" التي ستنظم موضوع الإنسحاب، وفي موقف يُظهر حجم الهيمنة الأميركية على القرار البريطاني، التقى ترامب بالعديد من المرشحين لخلافة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، مع إبداء موقفه حول ترتيبات ما بعد رحيلها.

صحيح أن موقف ترامب كان هو الأساس بوصول جونسون إلى رئاسة الحكومة، ولكن بالوقت ذاته فإن هذا الموقف ساعد على صحوة شعبية وحزبية بريطانية، تمثلت في معارضة شعبية عارمة، كذلك معارضة العديد من التيارات السياسية في بريطانيا لتدخلات ترامب في الشؤون الداخلية، وكانت أكثر هذه المعارضات ترجمة وتجسيداً للموقفين الشعبي والحزبي، حين قاد زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين مظاهرات حاشدة، ضد ترامب وسط لندن خلال زيارته الأخيرة لها.

 

● تبعات وصول جونسون إلى رئاسة الحكومة

خاض جونسون انتخابات رئاسة الوزراء تحت شعار  "فلنُنجز الخروج من الإتحاد الأوروبي"، وبعد فوزه بدأت حكومته فوراً

بمفاوضات مكثفة مع الإتحاد الأوروبي، انتهت بتوقيع اتفاقية "بريكست"، التي شملت مسائل عديدة مثل النقد، وحقوق المواطنين، والإجراءات الحدودية، وحل النزاعات، وغير ذلك، لتخرج بريطانيا بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2020 رسمياً من الإتحاد الأوروبي، وذلك بعد عضوية دامت نحو خمسين عاماً، وليصرّح جونسون بعد ذلك "هذه لحظة عظيمة للبلاد، لقد نلنا حريتنا، والأمر متروك لنا لتحقيق أقصى استفادة منه".

ومع مرور الوقت أدرك البريطانيون حجم الكارثة التي أوقعهم جونسون فيها، حيث فقدوا حق الإقامة الدائمة، وتصاريح العمل في دول الإتحاد الأوروبي، كما أن المواطنين البريطانيين لن يستطيعوا العيش في دول الإتحاد، إلا إذا استوفوا شروط الهجرة اللازمة، وهذا بدوره ينطبق على مواطني دول الإتحاد، وأصبحت غالبية البريطانيين على قناعة، أن الحكومة البريطانية بهذه الخطوة أوقعتهم في مأزق معدوم الحلول على المدى القريب، مما يجعل الخروج منه أمراً بالغ الصعوبة، وبهذه الخطوة فقدت بريطانيا الكثير من الميزات، كونها كانت المستفيد الأكبر بوجودها ضمن الإتحاد، وذلك من خلال التجارة بلا رسوم أو الحصص، كذلك فقدت السوق الأوروبي الضخم الذي يبلغ حوالي 400 مليون مستهلك.

وتأتي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتكتمل فيها حماقات جونسون، حيث تسبّبت إندفاعته غير العقلانية، وغير المدروسة ضد روسيا، بوضع لندن على قائمة أهم أهداف الردّ الروسي، مما سيرتب نتائج وخيمة على الشعب البريطاني، إقتصاديا،ً ومعيشياً، وخاصة إذا حصلت تسوية أميركية روسية، وتبرأت واشنطن على أثرها مما فعل الآخرون.

 

ختاماً، من الواضح أن الفارق الأساسي بين رؤوساء وزراء بريطانيا السابقين، وبين رئيس الوزراء الحالي، هو أن من سبقوا كانوا يتمتعون ببعض الواقعية السياسية، الشيء الذي ساعدهم على المناورة ضمن هامش لا بأس به، أمّا جونسون، الذي فصلته الولايات المتحدة تماماً عن الواقع بكافة أنواعه، أغلق أمام نفسه كل طرق الحركة، باستثناء الطريق الذي أوصله إلى خارج زعامة حزبه، وقريباً إلى خارج الحكومة، ولاحقاً إلى خارج مجال العمل السياسي بشكل كامل.