قراءة في نداء الامام الخامنئي بمناسبة حلول موسم الحج
الموافق 5 ذي الحجة 1443هج
في كل عام، وفي موسم الحج الاكبر الذي يجمع المسلمين في مكان وزمان واحد في موقف عرفة ليلبوا نداء الله تعالى، ننتظر جميعا نداءا من الولي الفقيه، نائب الامام المهدي المنتظر( عج) ليضعنا امام المستقبل ( غير المنظور) بعينه الثاقبة وبحكمته العالية وببصيرته الثاقبة، ويحدد لنا خارطة الطريق التي ينبغي ان نسير عليها، كما ويحدد لنا معالم الطريق بكل ما يحمل من عناصر قوة وتحديات ومطبات يتحرك بها العدو لينال منا.
من خلال هذه الخارطة، وهذا الاستشراف للمستقبل يمكن لنا معرفة صحة مسيرتنا وقربها من اهدافها، ولنصحح الاخطاء التي وقعنا فيها.
ياتي موسم الحج هذا العام بعد انقطاع عن اداء هذه الشعيرة العظيمة ( بسبب ازمة كورونا)، والتي قرنها الله تعالى بدرجة التوحيد له سبحانه وتعالى لقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين ) /سورة ال عمران ، 97.
بشكل واضح ومختصر حدد السيد الامام الخامنئي اهيمة الحج في ركيزتين اساسيتين تتفرع منهما عناصر متعددة .
وهاتان الركيزتان هما :
اولا: الوحدة .
ثانيا: الروحانية .
عندما تترافق هاتان الركيزتان ( الوحدة مع الروحانية ) فان الامة الاسلامية بمقدروها ان تصل الى ذروة عزها وسعادتها وتكون مصداقا لقوله تعالى ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)/سورة المنافقون ،اية 8.
لم يغفل الامام عن التركيز على مفهوم الوحدة لكي لا يذهب ذهن القارئ او المستمع بعيدا، فيؤكد: ان من مفهوم الوحدة ننتزع البعد السياسي في مسيرة الاسلام الذي جاء كركن اساس مواز للبعد الروحاني والعبادي.
لهذا يؤكد الامام الخامنئي بالقول على ان ( الحج تركيب من هذين العنصرين : السياسي والروحاني، ودين الاسلام المقدس مزيج عظيم وسام من السياسة والروحانية ).
ولان الوحدة التي تدخل في فهمها معان كثيرة ومنها السياسة، والروحانية التي تدخل فيها هي الاخرى ابعاد كثيرة، يعدان من اهم ركائز المسلمين في الحج واللتان تعبران منشا عزة الامة الاسلامية وسعادتها، نرى ان العدو بذل خلال العقود، بل والقرون الماضية مساع كبيرة من اجل زعزعتهما في اوساط الشعوب المسلمة .
فعلى صعيد الروحانية يحاول العدو ان يجعل الروحانية تحمل لونا( باهتا) على حد وصف السيد الامام، من خلال الترويج للحياة الغربية التي تتقاطع مفهوما ومصداقا، روحا وعملا مع الروحانية الاسلامية، التي ملؤها المحبة والتواصل والتاخي والايثار من جهة ، والاستقلال والعزة والكرامة من جهة اخرى، ورفض الظلم والعدوان ورفض الخضوع لغير الله تعالى من جهة ثالثة .
اما الوحدة فقد عمد العدو خلال التاريخ الماضي من حياة امتنا ان يزرع التفرقة على اساس القومية او العرق او اللون او الطائفة، وهذا هو البعد السياسي في الصراع بيننا وبين العدو، بين وحدتنا الاسلامية وبين تمزقنا السياسي وتشرذمنا والسيطرة علينا.
في موسم الحج نرى عزة الامة ووجودها العبادي والاجتماعي والانساني يكمن في وحدتها، هكذا يريدها الله تعالى، فالله تعلى عندما فرض هذه الشعيرة المقدسة انما يقول ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم) سورة الحجرات، اية 13 ، فالعربي المنحرف الموالي للغرب او المطبع مع الصهاينة ليست له قيمة اجتماعية او دينية او سياسية ، ولو كان ابن صناديد العرب، والفارسي المقاوم المجاهد الصابرالمرتبط بالله ارتبطا عقائديا، لن يعبا باوصاف بعض اجلاف العرب .
وهكذا بقية الاعتبارات الجغرافية والطائفية اوالقومية وغيرها .
الثقة بالله والامل بالنصر
يشير السيد الامام الى واقع نعيشه ونلمسه بشكل يومي في انتصار ارادة الامة وفي وحدتها وعزتها وروحانيتها على مشروع الاعداء في محاولتهم تمزيق هذه الامة، فيؤكد على حقائق مهمة تبعث على استشراف المستقبل بثقة عالية ومفعم بالامل، حيث يقول( ما يمكن قوله بشكل حاسم هو ان الظروف الحالية للعالم الاسلامي باتت مؤاتية اكثر من اي زمن مضى لانجاز هذا المسعى القيم والسبب هو :
اولا: ان النخب والكثير من الجماهير الشعبية في البلدان الاسلامية التفتوا الى ثورتهم المعرفية والروحانية العظيمة، وادركوا مدى اهميتها وقيمتها، ولم تعد الليبرالية والشيوعية اليوم – بصفتهما اهم تحفتين قدمتهما الحضارة الغربية – تملكان حضورا ما قبل مائة عام او الاعوام الخمسين الماضية .
ان سمعة الديموقراطية الغربية القائمة على المال تواجه اسئلة حقيقية، والمفكرون الغربيون يقرّون باصابتهم بالتيه المعرفي والعملي، وفي العالم الاسلامي يكتسب الشباب والمفكرون ورجال العلم والدين بعد رؤيتهم هذه الاوضاع رؤية حديثة تجاه ثروتهم المعرفية، وايضا حيال المنهاج السياسية الرائجة في بلدانهم ... وهذه هي عينها الصحوة الاسلامية التي تردد ذكرها باستمرار).
في هذه السطر يشير السيد الامام الى قضايا مهمة وحساسة وعملية ايضا عن مدى انهيار النظرية السياسية الغربية ( الليبرالية) والتي كانت تتغنى بها ليس الشعوب الغربية فحسب، بل شريحة مهمة وكبيرة من اتباعها في المجتمعات العربية والاسلامية بوصفها – تحفة - انجزتها النظرية الغربية للمجتمعات الانسانية.
خلال العقود الماضية، وبسبب ظلم واستبداد الانظمة العربية والاسلامية الحاكمة لشعوبها نزحت اعداد كبيرة من ابناء تلك المجتمعات الى الغرب ( علّها ) تجد ضالتها في حياة كريمة، لكن ومن خلال المعايشة الميدانية والتجربة العملية تيقن الشباب المسلم والعربي ان التمييز العنصري والاقصاء، ومسخ هوية الانسان واستعباده، وتحويله الى الة للانتاج ليس اكثر هي ( السمة البارزة) في النظرية الليبرالية الغربية .
والايام القليلة الماضية تابعنا وبشكل مباشر عملية التمييز العنصري والديني ليس على مستوى كبار المسؤولين، بل حتى ابسط رجال الامن وهم يتعاملون مع المجتمعات النازحة من اوكرانيا الى الدول الغربية على اثر الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا.
هذا التمييز نموذج مصغر لفشل النظرية الليبرالية ونفاق اصحابها الذين ينغنون بالمساواة وحقوق الحيوان، فضلا عن حقوق الانسان، وتبين للمجتمعات العربية والاسلامية ان حقوق الحيوان لدى الغرب اكبر من حقوق الانسان العربي المسلم.
هذا التصور لدى الشباب المسلم رسخ قناعة بان النظرية الليبرالية او الديموقراطية هي ليست اكثر من كذبة يحاول الغرب خداع المجتمعات العربية لابعادهم عن دينهم وثروتهم الفكرية وحضارتهم الاسلامية وقيمهم الانسانية .
ثانيا: في مقابل هذا النموذج المنافق والخادع المتمثل بالنظرية الغربية القائم على اساس النظرية الليبرالية والتي بسببها تعيش شعوبنا الاسلامية وحتى الشعوب الغربية حالة انحطاط وحروب وازمات هائلة، من حروب مباشرة او بالنيابة او من خلال الحرب الناعمة التي تمثل اخطر انواع الحروب، في مقابل هذه النظرية تجلى للمجتمعات العربية والاسلامية نموذج اخر يحمله الاسلام المحمدي الاصيل في ثوبه العصري المتجدد، المنبي على اساس قيم الاسلام، وثوابت الانسان وفطرته، وتقاليد المجتمعات العربية والاسلامية المستخلصة من الاعراف والتقاليد المتسقة مع الدين والعقيدة .
هذا النموذج هو تجربة حاكمية الاسلام في الجمهورية الاسلامية في ايران ، وهنا يشير الامام الخامنئي الى( ان ثبات الجمهورية الاسلامية واستقلالها وتقدمها وعزتها حدث بمنتهى العظمة، ومفعم بالمعاني وجذّاب يمكنه ان يستقطب فكر ومشاعر اي مسلم يقظ . وان انواع العجز والممارسات الخاطئة في بعض الاحيان والتي صدرت عنا نحن المسؤولين في هذا النظام التي اخرت الاكتساب الكامل لبركات الحكومة الاسلامية كافة، لم تستطع اطلاقا زعزعة الاسس المتينة والخطوات الراسخة النابعة من المبادئ الاساسية لهذا النظام ، وعجزت عن ايقاف التقدم المادي والمعنوي . وتقع على راس هذه المبادي الاساسية : حاكمية الاسلام في تشريع القوانين وتطبيقها، والاعتماد على الاراء الشعبية في اهم شؤون ادارة البلاد، والاستقلال السياسي الكامل، وعدم الركون الى القوى الظالمة.
هذه المبادئ هي القادرة على ان تحظى باجماع الشعوب والحكومات المسلمة ، وان توحد الامة الاسلامية في التوجهات وانواع التعاون وتجعلها متلاحمة).
ثالثا: نتيجة لانتصار التجربة الاسلامية في الحكم بوصفها النموذج الاكمل والمصداق الاجلى في عصرنا الراهن، كتجربة اسلامية من حيث المنبع والتشريعات والاهداف الكبرى التي تحملها على مستوى الامة عابرة لكل الاطر القومية والطائفية والجغرافية، وبوصفها النموذج الاكمل الذي استطاع ان يجمع بين الاصالة وثوابت الاسلام، وبين العلم ومتطلبات العصر.
هذه التجربة الفريدة اعادت الامل بالامة وبدينها وبحقوقها المسلوبة منذ عقود، واستطاعت هذه التجربة الاسلامية ان تتحول من ثورة الى دولة اسلامية، والدولة الاسلامية تحولت الى محور هو محور المقاومة الذي استطاع ان يدافع كرامة الامة وثوابتها وقيمها وقارع الاستكبار والمستبدين .
تجربة الجمهورية الاسلامية اعادت الوعي في عقل الامة، وغيرت اولويات تفكيره واعادت الثقة له بثوابته وقضاياه المصيرية، فتحولت الامة من امة ضائعة مسلوبة الارداة تتحكم بها ارادات خارجية بايدي بعض الحكام المستبدين الى امة حية، تتحرك بوعي وارادة وتحمل الاسلام وقيم المجتعات كثوابت لا تحيد عنها.
وبهذا الصدد يقول الامام الخامنئي ((هذا الوعي الذاتي الاسلامي انشا ظاهرة مذهلة واعجازية في قلب العالم الاسلامي، اذ ان القوى الاستكبارية تواجه مازقا كبيرا في التعامل معها، هذه الظاهرة اسمها – المقاومة - وحقيقتها ذاك التجلي لقوة الايمان والجهاد والتوكل .
هذه الظاهرة هي نفسها التي نزلت في مرحلة صدر الاسلام حول احدى نماذجها هذه الاية الشريفة ( الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)) سورة ال عمران الايتان 173-174.
ويذكر الامام الخامنئي اكثر من مصداق على ذلك التجلي والدعم والفيض الالهي على انتصارات محور المقاومة الذي امتد طولا وعرضا، متجاوزا كل المحددات التي زرعها الاستكبار بين ابناء الامة والواحدة، من حدود (سايكسبيكو)، او مصدات طائفية، او حواجز قومية، فتحققت كما يقول في ( الساحة الفلسطينية من التجليات لهذه الظاهرة المذهلة التي استطاعت جر الكيان الصهيوني الطاغي من حالة الهجوم والعربدة الى حالة الدفاع والارتباك، وتمكنت من فرض هذه المشكلات السياسية والامنية الواضحة عليه الان .
كما يمكن مشاهدة نماذج لامعة اخرى للمقاومة في لبنان والعراق واليمن وبعض النقاط الاخرى بوضوح ).
حري بنا ان ننظر الى هذا االنداء الذي اطلقة امام الامة والولي الفقيه والمرجع المتصدي لمسائل الدين كافة، السياسية منها والفكرية فضلا عن الفقهية المعاصرة، والمحيط احاطة تامة بمتغيرات العالم وصراعاته، وبخاصة الصراع ما بين محور الحق ومحور الاستكبار العالمي، لهذا يجب ان ناخذ ونقرا هذا الخطاب بعين ابعد من ان تكون عينا سياسية فحسب، او عاطفية او غيرهما، بل نحن على يقين بان الامام الخامنئي عندما يكثر الحديث عن الامل، وحتمية النصر، وانه اقرب مما يتصوره حتى بعض المتفائلين، انما ينطلق من عوامل عدة ، من اهمها الوعد الالهي بالنصر( يا ايها الذين امنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) سورة محمد ، اية 7 ، ومن الواقع المتحرك بالامة نحو تحقيق ذلك النصر، فما بين عام 1979 ابان انتصار الثورة الاسلامية وبين عصرنا الراهن نجد ان الامة قد حققت انتصارات مذهلة واعجازية بحسابات زمنية وظروف سياسية واقتصادية، ناهيك عن مستوى الوعي الكبير الذي تعيشه الامة قياسا الى ذلك التاريخ ، كل هذه العوامل كانت حاضرة في الامل الذي يتحدث عن قائد الامة ومرجعها نحو تحقيق النصر( انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) سورة المعارج، اية 6.
مركز افق للدراسات والتحليل السياسي
بغداد
الجمعة 8 ذي الحجة
9/ 7/ 2022
التعليقات