سبعون عاما على ثورة 23 يوليو ولازال الهجوم مستمر !!


ليست المرة الأولى التي أكتب فيها مدافعا عن ثورة 23 يوليو 1952 بل تحولت هذه الذكرى من كل عام إلى مناسبة للهجوم عليها من قبل أعداء الوطن وبالتالي أصبح مقالي الدائم في هذا التوقيت من كل عام هو دفاعا عن هذه الثورة العظيمة العزيزة على جموع المصريين, وهذا العام وبمناسبة الذكرى السبعين انهالت الدعوات من القنوات الفضائية المختلفة سواء داخل مصر أو خارجها, وكانت من بين هذه الدعوات دعوة من قناة تدعى المستقلة وهى ليس لها من اسمها نصيب, حيث بدت الدعوة لطيفة وهناك إصرار من معدي الحلقة لأكون معهم ورغم انشغالي واعتذاري في اليوم الأول إلا أنهم أصروا أن أكون ضيفهم في اليوم التالي, وتحت الإلحاح وافقت على الظهور معهم, وفي الوقت المحدد ظهر على الشاشة وجه المذيع القميء وكانت مفاجأة لي حيث قام بعمل مقدمة هاجم فيها مصر وجيشها العظيم ووصف ثورة يوليو بالانقلاب ثم وصف 30 يونيو 2013 بالانقلاب أيضا, ثم قدم ضيفه الأخر إخواني يقيم في النرويج وبدأ حديثه بهجوم على السبعين عاما الماضية واصفا تلك الفترة بحكم العسكر واستمر في الهجوم والسباب والكذب والافتراء, وعندما حل دوري في الحديث كنت قد أصبحت منفعلا بدرجة كبيرة وبالفعل بدأت بالهجوم المضاد مدافعا عن ثورة مصر ومشروعها وجيشها العظيم فقاطعني المذيع وضيفه بفاصل من الشتائم اضطرتني للانسحاب من اللقاء, ثم تلى ذلك وفي اليوميين التاليين عدة لقاءات على الإعلام المصري تحدثت فيها بالتفصيل عن ثورة يوليو مفندا كل الاكاذيب التي يلصقها بها أعداء الوطن.  

  فلم تهاجم ثورة في التاريخ مثلما هوجمت ثورة 23 يوليو 1952 فعلى الرغم من مرور سبعة عقود كاملة من الزمان على قيامها إلا أنها محل جدل كبير مازال يتكرر وتتصاعد وتيرته مع كل ذكرى سنوية لها, فهناك ألاف من الكتب, وأطنان من الأوراق والأحبار التي استهلكت في مقالات صحفية, وساعات بث واسعة عبر الإذاعات والشاشات, ثم أخيرا مساحات غير محدودة عبر الشبكة العنكبوتية – الانترنت -  سواء على المواقع أو صفحات التواصل الاجتماعى تحاول أن تنال منها.

 وحتى اللحظة الراهنة مازال بعض الكارهين لها ولقائدها يصفونها بالانقلاب العسكري في محاولة لتشويهها, لكن هذه المحاولات الفاشلة لا يمكن أن تصمد أمام العلم كثيرا, فمن المعروف والثابت والمستقر والمتفق عليه في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية أن الثورة " هى إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية " هذا هو جوهر مفهوم الثورة.

لذلك يمكننا التأكيد بما لا يدع مجال للشك أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها, فإذا أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع وأحدثت تغييرا حقيقيا في خريطته الطبقية المختلة وأعادتها إلى توازنها بحيث تبرز الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الدنيا الفقيرة والكادحة والمهمشة نكون هنا أمام ثورة حقيقية, وإذا لم يحدث التغيير الجذري في بنية المجتمع وظلت الخريطة الطبقية معتلة كما هى فأننا أمام أي شيء آخر غير الثورة.

لذلك نستطيع أن نقول وبقلب وضمير مستريح وبعيدا عن أي مواقف غير موضوعية أن ثورة 23 يوليو 1952 هى الثورة الحقيقية الوحيدة حتى اللحظة الراهنة في تاريخ الشعب المصرى, لأنها الثورة الوحيدة التي أحدثت تغييرا جذريا إيجابيا في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, وهى الثورة الوحيدة في تاريخنا التي انتصرت للفقراء والكادحين والمهمشين ومكنتهم من حقوق المواطنة, وهو ما أدى إلى حدوث حراك اجتماعي صاعد لقطاعات واسعة من أبناء الشرائح الطبقية الدنيا تمكنوا من العبور والصعود والاستقرار بكرامة في فناء الطبقة الوسطى.

 ويلخص قائد الثورة جمال عبد الناصر أحوال المجتمع المصرى عشية قيام الثورة في إحدى خطبه حيث يقول: " 500 مليون جنيه من 700 واحد .. طب وال 27 مليون عندهم أيه .. ده الوضع اللي ورثناه .. ده الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية .. ولكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد بيكسب نصف مليون جنيه في السنة .. وبعدين كاتب لأولاده أسهم كل واحد نصف مليون جنيه .. طب والباقين الناس اللي ليهم حق في هذه البلد .. أيه نصيبهم في هذه البلد .. يورثوا أيه في هذه البلد .. لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون الغنى أرثا والفقر أرثا والنفوذ أرثا والذل أرث .. ولكن نريد العدالة الاجتماعية .. نريد الكفاية والعدل .. ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات .. ولكل فرد حسب عمله .. لكل واحد يعمل .. لكل واحد الفرصة .. لكل واحد العمل .. ثم لكل واحد ناتج عمله ".

وبتأمل كلمات قائد ثورة يوليو تكتشف كيف كانت أحوال المصريين ؟ وكيف كانت الخريطة الطبقية ؟ وتكتشف أيضا رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري, وقدرته الفائقة على التشخيص السليم وكتابة العلاج, والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحل الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات, لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء والكادحين والمهمشين منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الاقطاعيين والرأسماليين الأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ.

فخلال الأيام الأولى لثورة يوليو كانت المواجهة مع القوى الاقتصادية المسيطرة المتمثلة في رموز الاقطاع, فكان صدور قانون الاصلاح الزراعي ضربة قاضية أحدثت تغييرا جذريا في البنية الاقتصادية والاجتماعية انعكست على شكل الخريطة الطبقية للمجتمع المصرى, تبعتها ضربات سياسية لتغيير جذري في البنية السياسية التي كانت حكرا على مجموعة من الأحزاب التي يتربع عليها مجموعة من البشوات والبهوات والأفندية بعيدا عن الجماهير الشعبية, فجاءت هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي تنظيما سياسيا جامعا لقوى الشعب العامل, ولأول مرة يتم تمكين جموع المصريين من المشاركة السياسية وإمكانية الصعود للسلطة, فكانت نسبة 50 % للعمال والفلاحين في المجالس المنتخبة تمييزا ايجابيا لرفع ظلم تاريخى, ثم نص دستور 1956 على حق المرأة في الترشح للبرلمان خطوة سبقت فيها مصر بريطانيا العظمى التي لم يمكن دستورها المرأة من الترشح إلا في عام 1958,  وهنا تغييرا جذريا في البنية السياسية, ثم كان التعليم المجاني ودعم الدولة للعلوم والفنون والثقافة الجماهيرية تغييرا جذريا في البنية الثقافية للمجتمع المصري.

هذا التغيير الجذري في بنية المجتمع المصري الذي انعكس على الخريطة الطبقية المختلة قبل ثورة 23 يوليو 1952 والتي كان يتم فيها الفرز الاجتماعى على قدم وساق حيث الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا, فجاءت ثورة يوليو لتنحاز للغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء والكادحين والمهمشين, فكانت مجمل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تصب في صالح هؤلاء لذلك يمكننا القول أن هذه الثورة هى الثورة الحقيقية وفقاً للتقييم العلمى لها, اللهم بلغت اللهم فاشهد.