الإمام السجاد (علي بن الحسين عليه السلام) والتصور الإسلامي…


يتصور البعض أن الصحيفة السجادية لا تعدو كونها مجرد كتاب للأدعية التي كان يتلوها ويتعبد بها إمامنا علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين في خلوته مناجيا ربه (منقطعا عن الدنيا وهمومها مكرسا عزلته التي فرضها على نفسه في مرحلة ما بعد فاجعة استشهاد الإمام الحسين بن علي ع)!!.

في حين تقودنا القراءة المتأنية لهذا السفر الجليل لاستنتاج مغاير وهو أن الصحيفة السجادية هي دستور التصور الإسلامي المتكامل الذي يتعين على كل مسلم أن يستعين به ليتسنى له فهم القرآن واستيعابه والاهتداء به بدلا من السير العشوائي على غير بصيرة (بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير).

يحتاج المسلم إلى تصور تتكامل فيه عناصر الإيمان المتعددة بدءا من الاعتقاد في الألوهية والنبوة ورؤية الكون والمجتمع والعبادة والعمل الصالح فضلا عن منظومة الأخلاق في بعدها الواقعي بدلا من التشدق المتواصل بأخلاق نظرية بحتة لم يطبقها المسلمون ولا يبدو أنهم ينوون تطبيقها!!.

التصور الإسلامي الصحيح في بعده العملي هو البر باعتبار أن فعل الخير واجتناب الإثم هو الطريقة المثلى وهو خلق الإسلام الكامل الذي يتعين على كل مسلم أن يتخلق به.

يقول تعالى في محكم كتابه: (لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) البقرة 177.

ويقول سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) البقرة 189.

التصور الإسلامي الصحيح يشمل رؤية المسلم للكون والمجتمع والعلاقة بين الأفراد وتطور الجماعة المؤمنة والمعايير الصحيحة للصواب والخطأ في إطار منظومة العدالة الإلهية التي تقود الإنسان وتوجه مسيرته فعلا للخير ونبذا للشر وتقربا إلى الله عز وجل بكل ما يرضيه وتجنب ما يغضبه على العباد ويستدعي حلول نقمته.

معنى البر:

يقول الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: البَر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البِر، أي: التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تعالى تارة نحو: {إنه هو البر الرحيم} [الطور/28]، وإلى العبد تارة، فيقال: بر العبد ربه، أي: توسع في طاعته، فمن الله تعالى الثواب، ومن العبد الطاعة. والبر ضربان:
ضرب في الاعتقاد.
وضرب في الأعمال، وقد اشتمل عليه قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} [البقرة/177] وعلى هذا ما روي (أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن البر، فتلا هذه الآية) حتى فرغ منها ثم سأله أيضا فتلاها، ثم سأله فتلاها، وقال: (وإذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك).

فإن الآية متضمنة للاعتقاد والأعمال الفرائض والنوافل وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} [الممتحنة/8]، ويستعمل البر في الصدق لكونه بعض الخير المتوسع فيه، يقال: بر في قوله، وبر في يمينه، وقول الشاعر:
أكون مكان البر منه ودونه ** وأجعل مالي دونه وأوامره
ويقال: بر أباه فهو بار وبر مثل: صائف وصيف، وطائف وطيف وعلى ذلك قوله تعالى: {وبرا بوالدتي} [مريم/32]. وبر في يمينه فهو بار، وأبررته، وبرت يميني، وحج مبرور أي: مقبول، وجمع البار: أبرار وبررة، قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} [الانفطار/13]، وقال: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين/18]، وقال في صفة الملائكة: {كرام بررة} [عبس/16].
فبررة خص بها الملائكة في القرآن من حيث إنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر، وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار، كما أن عدلا أبلغ من عادل. انتهى.

تحدثت الآية عن البِر بمعناه الجامع الشامل بدءا بالاعتقاد وانتهاء بالأفعال.

فبر الاعتقاد هو الإيمان بالله سبحانه إيمانا صحيحا والتسليم بوحدانيته وأحديته وأنه سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى 11.

يلي ذلك ويكمله الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.

الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بحكمة الله تبارك وتعالى الماثلة في خلق الإنسان وإرسال الرسل والأنبياء إليهم يحملون الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد 25.

الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بالعدل الإلهي كحتمية يتعين أن ينتهي إليها المصير الإنساني مهما تصور الطغاة والمتجبرون أن بوسعهم الإفلات بما ارتكبوا من جرم من العدالة!!.

ثم تتدرج الآية الكريمة في بيان معنى البر وشموله للإنفاق في سبيل الله والعبادة على وجهها الصحيح وحفظ العهود والمواثيق التي ألزم المؤمنون أنفسهم بها أو ألزمهم الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بحفظها بل وجعل من الوفاء بها صفة من صفات الإيمان والبر ثم التزام الصبر والثبات سواء كان في مواجهة المحن والبلاء أو في مواجهة الظالمين المعتدين (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الرعد 25.

أما آية البر الثانية فترسم للمسلمين آداب الطريق وتحضهم على أن يأتوا البيوت من أبوابها والبيوت هنا بيوت العلم والحكمة وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (نَحْنُ الشِّعَارُ وَالأصْحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالأبْوَابُ، وَلاَ تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً).

 

الحكمة

وإذا كان البر هو العنوان الجامع للعمل الصالح في الإسلام فالحكمة هي الدليل الذي يستدل به المسلم ويميز به بين البر والخير من ناحية والإثم والشر من ناحية أخرى.

الحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعقل وهي قرين الوحي الإلهي الذي يمكن لكل متبع للرسالة أن يطلع عليه ويتلوه حتى ولو لم يحكمه.

الحكمة هي منة من الله يهبها للأصفياء من عباده (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) البقرة 269.

الحكمة كما يقول الراغب الأصفهاني: إصابة الحق بالعلم والعقل. حكمة الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام, أما الحكمة الإنسانية فهي معرفة الموجودات وفعل الخيرات.

وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان/12]، ونبه على جملتها بما وصفه بها، فإذا قيل أن الله تعالى حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وصف به غيره، ومن هذا الوجه قال الله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين/8]، وإذا وصف به القرآن فلتضمنه الحكمة، نحو: {آلر تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس/1]، وعلى ذلك قال: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة} [القمر/4 – 5]، وقيل: معنى الحكيم المحكم نحو: {أحكمت آياته} [هود/1]، وكلاهما صحيح، فإنه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان جميعا، والحكم أعم من الحكمة، فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة، فإن الحكم أن يقضي بشيء على شيء، فيقول: هو كذا أو ليس بكذا، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة) أي: قضية صادقة وقال صلى الله عليه وسلم: (الصمت حكم وقليل فاعله)، وقيل: فهم حقائق القرآن، وذلك إشارة إلى أبعاضها التي تختص بأولي العزم من الرسل، ويكون سائر الأنبياء تبعا لهم في ذلك وقوله عز وجل (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) [المائدة/44]، فمن الحكمة المختصة بالأنبياء أو من الحكم قوله عز وجل: {آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران/7]، فالمحكم: ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى.

يمكننا القول أن هذا السفر الجليل قد أودعت به الكثير من كنوز الحكمة التي ورثها أئمة أهل البيت كابرا عن كابر وهي مفاتيح البر وفعل الخير ومصابيح الهداية بعد أن من الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وآله (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[1] فكان أن اخْتَارَ محمدا (مِنْ شَجَرَةِ الأنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ، وَذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ)[2].

الحكمة هي فهم محكم وبناء معرفي من خلال منطق محكم متناسق تتراص أجزاؤه ولا تتنافر فيما بينها إذ أن تنافرها يؤدي حتما لانعدام تماسكها وعدم قدرتها على النهوض ولو افترضنا جدلا أن هذا البناء الفوضوي قد أفلح في النهوض مؤقتا فلا بد أن ينهار عاجلا أو آجلا مهما حاول المستفيدون من هذا البناء المسخ إبقاءه قيد الحياة والحيلولة دون تفسخه الحتمي.

عقل بلا علم هو فلسفة إنسانية محضة ولا يمكن أن تكون دينا وعلم ديني لا يستند إلى العقل هو عبادة للرجال واتباع لهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

تبدأ عملية تناسق البناء من وضع الأساس المحكم والراسخ وهذا هو معنى قوله تعالى في سورة التوبة (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ* لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 109-110.

ولأن الخالق والمشرع الأعلى واحد أحد لا شريك له ولا ند له ولا ضد له إذ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[3] (إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)[4] ولولا هذه الوحدانية لفسد الكون وما كان للقول بحكمة الخلق معنى ولا مجال!!.

ولأن النبي شخص واحد هو الإمام المبين وهو حجة الله على خلقه ولأن الحجة على الخلائق لا بد أن يكون واحد دهره وفريد عصره فكان أن اصطفى الله تبارك وتعالى أنبياءه وفضلهم على العالمين وآتاهم الحكمة وفصل الخطاب (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) النساء 54.

ولأن المهمة الموكلة للأنبياء هي البلاغ (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)[5] يتلو ذلك مهمة بناء التصورات وبناء المجتمع المسلم بناء محكما قائما على فهم محكم وتطبيق أخلاقي محكم.

كان لا بد بنص القرآن الكريم أن يتلو محمدا صلى الله عليه وآله إمامٌ منه, شاهدا على أمته من طينته ومن عترته أهل بيته (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ) …. (إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ)[6].

ولأن كل حكمة حكم وليس كل حكم حكمة لذا كانت كارثة المسلمين العظمى حينما فصلوا بين الحكم والحكمة واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ولذا كانت الكثير من تطبيقاتهم الواقعية والشرعية أبعد ما تكون عن الحكمة الإلهية القرآنية والحكمة النبوية التطبيقية!!.

تمثلت كارثة المسلمين في إعراضهم عن طاعة الإمام المنصوب من الله عز وجل والمكلف باستكمال البناء الذي أرسى دعائمه الأنبياء والمرسلون وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتمييز بين المفاهيم الأصيلة وتلك الدخيلة والمزيفة والأهم من هذا تحويل هذه المفاهيم من تصورات نظرية هائمة في الفضاء إلى تطبيقات عملية راسخة في أرض الواقع من خلال اعتماد الحكمة الإلهية التي اختص الله بها أولياءه من آل إبراهيم وآل محمد (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة).

أهل البيت معدن الحكمة

ما زال القوم يكابرون ويصرون على نفي الحاجة لولاية أهل البيت معتمدين في مكابرتهم على جماعة الحكماء المزيفين الذين جاء بهم الحظ والقرعة وقامت أجهزة الدعاية والإعلام بإسباغ صفات القداسة الربانية عليهم من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

ولأن القوم يزعمون أنهم (أهل سنة) فهم يضربون بالنص القرآني عرض الحائط ولا يستندون إليه إلا من أجل تمرير ما يحتاجون إلى تمريره ومن ثم فهم يتجاهلون النص القرآني الذي يحذر من التزكية المذمومة للنفس أو يقرءونه بصيغة أنا رغم أنه جاء بصيغة نحن.

يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)[7].

(فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[8].

لا يكف القوم عن تزكية أنفسهم ولا يكتفون برفع حكمائهم المزيفين إلى مرتبة لا يستحقونها بل يصرون على نفي التزكية الإلهية لأهل البيت الذين زكاهم الله في كتابه فكان أن أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

رؤية السجاد للمجتمع المسلم

كان الإمام علي بن الحسين عليه السلام يندب ويبكي ويتفجع على ما آلت إليه أحوال المسلمين إذا تلا هذه الآية “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” ويقول:

اللهم ارفعني في أعلى درجات هذه الندبة وأعني بعزم الإرادة، وهبني حسن المستعقب من نفسي، وخذني منها حتى تتجرد خواطر الدنيا عن قلبي من برد خشيتي منك وارزقني قلبا ولسانا يتجاريان في ذم الدنيا، وحسن التجافي منها حتى لا أقول إلا صدقت وأرني مصاديق إجابتك بحسن توفيقك حتى أكون في كل حال حيث أردت……

وقد أغرق في ذم الدنيا الأدلاء على طرق النجاة من كل عالم، فبكت العيون شجن القلوب فيها دما، ثم درست تلك المعالم، فتنكرت الآثار، وجعلت في برهة من محن الدنيا، وتفرق ورثة الحكمة وبقيت فردا كقرن الأعضب وحيدا، أقول فلا أجد سميعا، وأتوجع فلا أجد مشتكى. وكيف تجلدي وفي القلب مني لوعة لا أطيقها وحتى متى أتذكر حلاوة مذاق الدنيا، وعذوبة مشارب أيامها، وأقتفى آثار المريدين، وأتنسم أرواح الماضين مع سبقهم إلى الغل والفساد، وتخلفي عنهم في فضالة طرق الدنيا منقطعا من الأخلاء؟! فزادني جليل الخطب لفقدهم جوى وخانني الصبر حتى كأني أول ممتحن أتذكر معارف الدنيا وفراق الأحبة. فلو رجعت تلك الليالي كعهدها رأت أهلها في صورة لا تروقها فمن أخص بمعاتبتي؟ ومن أرشد بندبتي؟ ومن أبكي، ومن أدع؟ أشجو بهلكة الأموات، أم بسوء خلف الأحياء؟! وكل يبعث حزني ويستأثر بعبراتي، ومن يسعدني فأبكي وقد سلبت القلوب لبها، ورقا الدمع؟! وحق للداء أن يذوب على طول مجانبة الأطباء وكيف بهم وقد خالفوا الأمرين وسبقهم زمان الهادين ووكلوا إلى أنفسهم يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات؟! حيارى وليل القوم داج, نجومه طوامس لا تجري, بطئ خفوقها وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة بعد مفارقتها أئمة الدين، والشجرة النبوية إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتغالوا في العلوم ووصفوا الإسلام بأحسن صفاتهم وتحلوا بأحسن السنة، حتى إذا طال عليهم الأمد، وبعدت عليهم الشقة وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى وعلم النجاة، يتفسحون تحت أعباء الديانة تفسح حاشية الإبل تحت أوراق البزل. ولا يحرز السبق الرزاح وإن جرت ولا يبلغ الغايات إلا سبوقها وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن. فتأولوه بآرائهم، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قبس نور من الكتاب، ولا أثرة علم من مظان العلم بتخدير مثبطين زعموا أنهم على الرشد من غيهم. وإلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام الملة، ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف؟! يكفر بعضهم بعضا والله تعالى يقول “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات”. …….

فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكمة إلا أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة؟! هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرأهم من الآفات، وافترض مودتهم في الكتاب! هم العروة الوثقى وهم معدن التقى وخير حبال العالمين وثيقها فصل على محمد وآل محمد، وحقق رجائي لك، وكذب خوفي منك وكن لي عند أحسن ظني بك يا أكرم الأكرمين، وأيدني بالعصمة، وأنطق لساني بالحكمة، واجعلني ممن يندم على ما ضيعه في أمسه. اللهم إن الغني من استغنى عن خلقك بك، فصل على محمد وآل محمد وأغنني يا رب عن خلقك، واجعلني ممن لا يبسط كفه إلا إليك.

تظهر هذه الفقرة التي اقتبسناها من دعائه عليه السلام رؤية أئمة أهل البيت عليهم السلام لطبيعة وتطور المجتمع المسلم في مرحلة ما بعد النبوة وهو ما يناقض تلك النغمة السائدة عن القداسة والعصمة المطلقة لهذه الأجيال وروعة القرون الثلاثة الأولى التي لا يدانيها روعة من وجهة نظر المدرسة الرسمية المتحكمة في عقل الأمة الإسلامية.

الثناء على الصحابة والتابعين

ولأن كلامه عليه السلام يخرج من معدن الحكمة ومن مشكاة النبوة وهو ميزان الاعتدال الذي لا يحيف ولا يبخس الناس أشياءهم ولا يحرمهم من حقوقهم وحتى لا يتوهم الموالون أو المعادون أن أئمة أهل البيت وشيعتهم هم ممن يخرجهم ما لحق بهم من ظلم من الحق ويبعدهم عن الإنصاف نراه عليه السلام يدعو ويصلي على أصحاب النبي وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين فيقول:

اللهم وأتباع الرسل ومصدقوهم من أهل الأرض بالغيب عند معارضة المعاندين لهم بالتكذيب، والاشتياق إلى المرسلين بحقائق الإيمان، في كل دهر وزمان، أرسلت فيه رسولا وأقمت لأهله دليلا، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله من أئمة الهدى، وقادة أهل التقى على جميعهم السلام، فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان.

اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة, والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذا تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين “يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان” خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم، ومضوا على شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم، والائتمام بهداية منارهم، مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم. اللهم وصل على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين، وعلى أزواجهم، وعلى ذرياتهم، وعلى من أطاعك منهم، صلاة تعصمهم بها من معصيتك، وتفسح لهم في رياض جنتك، وتمنعهم بها من كيد الشيطان، وتعينهم بها على ما استعانوك عليه من بر، وتقيهم طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، وتبعثهم بها على اعتقاد حسن الرجاء لك، والطمع فيما عندك، وترك التهمة فيما تحويه أيدي العباد، لتردهم إلى الرغبة إليك والرهبة منك، وتزهدهم في سعة العاجل وتحبب إليهم العمل للآجل، والاستعداد لما بعد الموت وتهون عليهم كل كرب يحل بهم يوم خروج الأنفس من أبدانها وتعافيهم مما تقع به الفتنة من محذوراتها، وكبة النار وطول الخلود فيها، وتصيرهم إلى أمن من مقيل المتقين.

المجتمع المسلم هو بناء تراكمي بشري مادته وأحجاره المؤمنون الصادقون ومادته اللاصقة هي الإيمان والحب والرحمة والتكافل بين عباد الله الصالحين الذين (يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَيَةِ وَيَتَلاَقَوْنَ بالْـمَحَبَّةِ وَيَتَسَاقَوْنَ بِكَأْس رَوِيَّة وَيَصْدُرُونَ بِرِيَّة لاَ تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ وَلاَ تُسْرِعُ فِيهِمْ الْغِيبَةُ عَلَى ذلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَبِهِ يَتَوَاصَلُونَ).

حتى أولئك الذين يستخدمون الأحجار في بنائهم يحرصون على فرزها وتمييز الحجارة الصالحة من الفاسدة فضلا عن عنايتهم باستخدام مادة لاصقة متينة وقوية غير مزيفة.

هنا تأتي أهمية الفرز والتمييز وكشف أوجه الخلل والانحراف سواء كان خللا في مواد البناء أو فسادا في التصميم والتصورات والتخلص منها قل أن تخرب البنيان كله وتجعله دكا أو قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا.

لذا تبدو أهمية ممارسة المسلمين للنقد الذاتي وتصحيح الأخطاء ونبذ الممارسات الفاسدة التي أضرت بالبناء الاجتماعي والأخلاقي والسياسي للأمة وأحلتنا دار البوار دون أن يتجاوز هذا النقد ليصبح سبا وشتما أو هدما عشوائيا لعناصر الخير وإلحاقها بعناصر الشر والفساد.

السب والشتم العشوائي كارثة تورث المجتمع العداوة والبغضاء وهو جرم لا يقل سوءا عن جريمة التواطؤ والصمت على الجرائم والأخطاء وجعل المفسدين والمصلحين والخيرين والأشرار سواء  محياهم ومماتهم, ساء ما يحكمون (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص 28.

ضد الفقر والظلم

الدعامة الثانية من دعائم تماسك المجتمع المسلم هي التراحم والتكافل ورعاية حقوق الفقراء والمحرومين, أولئك الذين قعدت بهم قدراتهم عن تحصيل ما يكفيهم من الرزق وقد أكد القرآن الكريم على هذا المبدأ كركيزة وأساس من أساسيات البر والخير (وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) رغم أن الجهاد والتضحية في سبيل الله يمكن أن يكون أكبر أجرا وأعظم فضلا.

لذا نرى إمامنا السجاد يؤكد على ذم الفقر وضرورة تحقيق الكفاية لأبناء الأمة المسلمة فيقول سلام الله عليه: (اللهم لا طاقة لي بالجهد، ولا صبر لي على البلاء ولا قوة لي على الفقر فلا تحظر علي رزقي ولا تكلني إلى خلقك بل تفرد بحاجتي وتول كفايتي، وانظر إلي، وانظر لي في جميع أموري، فإنك إن وكلتني إلى نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإن وكلتني إلى خلقك تجهموني وإن ألجأتني إلى قرابتي حرموني وإن أعطوا, أعطوا قليلا نكدا ومنوا علي طويلا وذموا كثيرا فبفضلك اللهم فأغنني وبعظمتك فأنعشني وبسعتك فابسط يدي و بما عندك فاكفني).

ثم يؤكد هذا المعنى مرة أخرى فيقول:

(يا ولي المؤمنين: اللهم إنه لا علم لي بموضع رزقي وإنما أطلبه بخطرات تخطر على قلبي فأجول في طلبه في البلدان وأنا مما أحاول وأطالب كالحيران لا أدري في سهل أو في جبل أو في أرض أو في سماء أو في بحر أو في بر وعلى يدي من هو ومن قبل من وقد علمت أن علم ذلك كله عندك وأن أسبابه بيدك وأنت الذي تقسمه بلطفك وتسببه برحمتك فاجعل رزقك لي واسعا ومطلبه سهلا ومأخذه قريبا ولا تعنني بطلب ما لم تقدر لي فيه رزقا، فإنك غني عن عذابي وأنا إلى رحمتك فقير، فجد علي بفضلك يا مولاي إنك ذو فضل عظيم).

كانت هذه لمحات من التصور الإسلامي في مدرسة الصحيفة السجادية, تلك المدرسة التي يتعلم فيها المسلم الكتاب والحكمة واستخدام العقل استخداما صحيحا فضلا عما امتلأت به من دروس الأخلاق والنظرة الشاملة للكون والمجتمع والبشر.

[1] 164 آل عمران
[2] خطبة 107 نهج البلاغة.
[3] الأنبياء 22
[4] المؤمنون 91.
[5] العنكبوت 18
[6] هود 17.
[7] النساء. 49.
[8] النجم. 32.