في اليمن.. "جورج قرداحي" رَبِحَ المليون


سياسة الترهيب وكم الأفواه ومصادرة الرأي الآخر وتقييد الحريات ونسف البروتوكولات الدبلوماسية، هي نهج سائد منذ عقود في المملكة، ولكنه استفحل في السنوات الأخيرة.
لا مكان للحياد في العدوان على اليمن. لا خندق يصطف فيه الرماديون في أرض الإبادة المنسية، ولا جحر يختبئ فيه الساكتون عن حق شعبٍ يُباد على مرأى ومسمع عالمٍ متخاذلٍ، ولا زاوية يَحشر فيها المصفقون للمجازر ضمائرهم الميتة ومواقفهم المدفوعة الثمن. في مظلومية اليمن، لا مكان للشكّ والحيرة، ولا يحتاج المتابع إلى حذف احتمالات لتحديد الإجابة، ولا يتطلب الأمر الاتصال بصديق، أو الاستعانة بالجمهور، فالحق ظاهر لا تحجبه سحب الإعلام الخليجي ومن يدور في فلكه من قنوات إعلامية مرتهنة وأقلامٍ مأجورة، تتاجر بمآسي الشعوب، وتحرف الوقائع، وتطمس الحقائق، وتزور التاريخ.

منذ أيام، يدفع وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي ثمن موقفه من العدوان على اليمن. في إحدى المقابلات التلفزيونية قبل توليه منصبه الوزراي، وصف قرداحي الحرب على اليمن بـ"العبثية"، ودعا الأطراف المتحاربة إلى الإسراع بوقف حرب، قائلاً "إنّ الحوثيين يُدافعون عن أنفسهم ضدّ الاعتِداءات السعوديّة والإماراتيّة، وإنّ هذه الحرب في اليمن عبثيّة ويجب أن تتوقّف".

هذه التصريحات أثارت غضباً خليجياً غير مبرر ومبالغاً فيه، تمخضت عنه ضغوط دبلوماسية وسياسية شنت على الحكومة اللبنانية لفصل قرداحي من منصبه وإجباره على الاعتذار، وترافقت مع استدعاء للسفراء، وبيانٍ تهديدي لمجلس التعاون الخليجي، وهجمة إعلامية خليجية ولبنانية شرسة، وتحذير واضح ومباشر وصريح تضمنه بيان الخارجية السعودية بأنّ "على لبنان الاستعداد للعواقب". 

هذه المقابلة ليست جديدة، ولكن الواضح أن هناك من أعاد نبشها من أرشيف الوزير، واقتطع منها الفتيل القابل للاشتعال، ليضرب عصفورين بحجرٍ واحد؛ الأول هو الاقتصاص من كل إنسان حر يمتلك جرأة قول الحق في وجه ملوك الحرب، والآخر هو اختلاق أزمة جديدة تصبّ مزيداً من الزيت على نار العلاقات المتوترة بين لبنان وبعض الدول الخليجية التي اصطفت في خندق الحرب الاقتصادية عليه.

قرداحي رفض الاستقالة، ليس طمعاً في منصبٍ وزاري، كما قال، بل لأنه لم يجد في تصريحاته أي إساءة تستدعي حتى كلمة اعتذار. وبالفعل، إن ما قاله الوزير لم يصف الواقع المأساوي لحرب السنوات السبع، فالعدوان تخطى حرباً عبثية أجمعت على توصيفها قبله التقارير الدولية والمنظمات الحقوقية والصحف الغربية. في اليمن، ارتكب التحالف السعودي مجازر بالجملة، ولا يزال يطبق الحصار على شعبٍ بأكمله، ويعتمد سلاح التجويع، ويستخدم أسلحة محرمة دولياً. في اليمن، هناك آلاف الضحايا والجرحى، ومئات النازحين في العراء، وأكثر من 25 ألف موقعٍ مدني مدمر، وغاراتٌ طالت المدارس والمستشفيات والأسواق الشعبية وبيوت الآمنين وزوارق الصيادين، ولم تسلم منها حتى بيوت الله. في اليمن، لا توجد حربٌ عبثية، إنما هناك إبادة جماعية. 

سياسة الترهيب وكم الأفواه ومصادرة الرأي الآخر وتقييد الحريات ونسف البروتوكولات الدبلوماسية، هي نهج سائد منذ عقود في المملكة، ولكنه استفحل في السنوات الأخيرة، وليست واقعة اعتقال رئيس الحكومة اللبناني السابق سعد الحريري والاعتداء عليه وإجباره على الاستقالة ببعيدة عنّا، فالسعودية التي أنفقت المليارات لمصادرة الإعلام العربي وتدجينه وتفريغه من مضمونه العروبي القومي، واشترت ذمم بعض الإعلاميين وحبر أقلامهم، لتحولهم إلى أبواق يسبّحون بحمدها ويلمعون صورتها، لم تعتد أن تسمع تصريحات كهذه من مسؤول لبناني، بل اعتادت أن يقابل بعض الساسة اللبنانيين تدخلاتها بالمديح والتمجيد، وأن يكونوا سمعاً وطاعةً لتعليماتها، ولو جاءت على حساب سيادة البلد واستقلاله واستقراره.  

لتربحَ المليون في اليمن، لست بحاجة إلى مراحل تجتازها. يكفي فقط موقف حر، يكفي أن تحكّم ضميرك، وأن تحترم "آدميتك"، فالتاريخ لا يرحم ولا ينسى. وغداً، سنُسأل عن كل صبي قتلَته الغارات السعودية، وعن كل طفلة نامت تحت التراب وهي تحتضن لعبتها، وعن كل امرأة ترملت أو ثُكلت بأبنائها، وسنسأل عن الأعراس التي حولتها غارات الحقد إلى مآتم، وعن الملاعب والحدائق التي تحولت إلى مقابر، وعن الأسواق الشعبية التي باع التحالف واشترى فيها جثث الأبرياء، وعن زوارق الصيادين التي ابتلعتها حيتان الحرب. سنسأل عن كل ما حصل ويحصل هناك، فاليمن اليوم هو الامتحان الصعب الذي يحدد "من سيربح المليون!".