الحوار الحضاري.. نهضة أمة


ليس أجمل من أن نتحاور مع إنسان عميق، خاصة أن يكون هذا الإنسان له باع طويل في مدرسة الحياة، يمتلك فهماً عميقاً وأكاديمياً، طوّر مهاراته العلمية بالعملية، هذا الحوار أول ما يمكن أن يتسم به أنه مشوق، فالعمق الثقافي الصادر عن تجربة لهو أبلغ أنواع الثقافات، وهذا لا نجده إلا عند إنسان تعب في حياته حتى بلغ هذه الدرجة وهذه المنزلة.

 

هذا الإنسان الذي مزج العلم بالعمل، واحتك بالثقافات الأخرى، وخرج عن إطار دائرة البيئة الواحدة المغلقة، وسّع مداركه من خلال الاحتكاك بالبيئات الأخرى، ورؤيتها من أكثر من زاوية، ومباشرةً سأدخل إلى صلب المشكلة، نحن مشكلتنا اليوم كأمة عربية، ننظر إلى الأمور من زاوية واحدة، وهذا الأمر انعكس على طبيعة الحوار، بالتالي وبصراحة وبكل تجرّد، إن أغلب نقاشاتنا إن لم تصل إلى القطيعة بين المتحاورين، فعنوانها البارز هو الفشل، سواء سياساً أو اجتماعياً أو ثقافياً، أو فكرياً، حتى أدعياء الثقافة الذين نشاهدهم في دكاكين الإعلام، عبر برامج حوارية سياسية أو غيرها، أجزم أن الكثير منّا إن لم يغلق التلفزيون، ينتقل إلى قنوات أخرى، لكن لماذا؟

 

لأن أغلب النقاشات عبارة عن مقاطعات من المذيع/ة أو من الضيف ما يفقد الحوار أهم عناصره، (التمدن والرقيّ)، فالحوار الذي لا ينتهي بنتيجة مُتفق أو مُختلَف عليها، فهذا لا حوار، هذا يأخذنا إلى أننا كشعب عربي، نفتقر أيضاً إلى أدب الاستماع، على من يشرح فكرة معينة أن يُترك حتى يُكمِل فكرته، فإن كنا لا نستمع فتلك الطامة الكبرى، لنكون نحن العرب ظاهرة صوتية، متقنون للكلام ومقاطعة الآخر، إذ تشعر في مثل هكذا أجواء وكأن جلسة الحوار تلك عبارة عن منازلة أو مبارزة لاستعراض كل ما يمتلك من معلومات في جلسة واحدة، فيها رابح وخاسر، في حين يجب أن يخرج الجميع رابح.

 

الإنسان العميق إذاً وكما أشرنا، هو صاحب التجربة، والرصيد والمعرفة، هو صاحب الكنوز المعرفية لأنه يملك أكثر من زاوية أهمها أنه خرج عن إطار الدائرة الواحدة، قد يكون طالب درس في الخارج، أو عمل في الخارج، أو سافر بقصد الاطلاع أو التجارة، أو العلم، كلها تنمّي وتعمّق الإنسان وتصقله وبدون أدنى شك إن قلنا عن سين أو عين من الناس أن تجربته هي التي جعلت منه في هذا المستوى، ذلك حقيقة لا مبالغة فيها، لأن الاحتكاك مع الثقافات الأخرى هو الرصيد، فإن سألت اليوم عن القوميات الأخرى، ولو قرأت عنهم مجلّدات، لن أستطيع جمع التفاصيل الدقيقة كما لو زرت بيئتهم واطلعت على عاداتهم وتقاليدهم، فالحوار مع الأشخاص المثقفة قولاً وفعلاً، تستطيع أن ترفع رصيدك من خلاله، وهو بكل تجرد لن يبخل بأن يهديك هذه التجربة على سبيل الفائدة والأجر، ليزيد ثقافتك ويسمو تفكيرك ويرتقي عقلك، والمتلقي دائماً ما سيلاحظ عمق هذه الثقافة على عكس مدّعي الثقافة اليوم، الذين يحفظون الكلام وتراهم يسردونه بطريقة تدل على أنهم لا يفقهون ألف باء الثقافة أو السياسة أو الفكر أو الأدب، أو أياً كان ما سيتحاورون حوله، ما يُظهر مباشرةً أن كلامهم جامد لا روح فيه.

 

وأكرر يجب أن نتعلم الاستماع حتى وإن اختلفنا مع الآخر، لنأخذ ما يتقبله العقل ونبعده عن العاطفة أو البيئة أو الفطرة أو المذهب أو العقيدة، فإما أن تقتنع وإما لا، وفي الحالتين، كوّنت أسلوبك الخاص بك، بعد ان تجردت من كل ما سبق ذكره، لكن هذا يأخذنا إلى نقطة قد تكون بالغة الحساسية، في مجتمعاتنا العربية، إذ أن أغلب نقاشاتنا عقيمة وبنسبة كبيرة جداً، نجد أن العامل الأول، أن الإعلام العربي المسؤول عن الحوارات والضيوف، تجده مرتزق وموجه على حسب الممول والدولة ونهجها، معادية وموالية لمن، وقس على ذلك، إلا من رحم ربك، هذا الإعلام يعتمد على النسب مشاهدات والترند وغير ذلك، ولا يهمه أن يستفيد أحد من النقاش المطروح، كلما زاد الصياح والخلاف كلما زادت نسبة المشاهدات، العملية ربحية لا أخلاقية، فلو كان هناك اهتمام بالنتاج وبرقي العقل العربي لوجدنا الحال غير الحال، لكن كل النقاشات اليوم مع شديد الأسف، مبتذلة ومن الممكن القول إنها رخيصة، لأن أغلب الضيوف تتحدث بأوامر السلطان لا بقناعاتها، يصورون بلدهم على أنه الدولة الفاضلة، أو حزبهم على أنه الأعظم، أو حاكمهم ورئيسهم هو مغيث الضعفاء، مع هذه النتيجة وهي مزعجة بدأت أن انسحب بهدوء من هكذا أجواء، كي أحافظ على نفسي، فالمكان الذي لا يتم تقدير الضيف والمشاهد معاً لا يمكن أن أوافق على الدخول في هكذا ترّهات، والانسحاب ليس جُبن كما يعتقد البعض، بل هو حفظ لكرامة وعنفوان الشخص إذا كان النقاش عقيم، الذي لا طائل منه، خاصة النقاشات الطائفية والمذهبية والسياسية المتحيّزة ونقاشات عنصرية، فكلها عنوان لتكريس الفرقة ونشر التعصب والكراهية ونبذ الآخر، وتنشر ثقافة الأحقاد، وتقطع أوصال أبناء الأمة الواحدة وأبناء الفكر الواحد، أي إنسان لا يحسن طريقة وإدارة النقاش ويحترم الآخر وإن اختلف معه، الانسحاب هو الحل الأنجع لهذه الظاهرة، وهذه نقطة قوة لا ضعف.

 

وإذا كان الحوار مع من يدّعي أنه صديقك، ويظهر أنه محب ومهتم، لكن هذا الأمر مرده غالباً مصلحة دنيوية يريد ان يحققها عبر هذه الصداقة غير الصادقة، أو من أجل الاستفادة من علاقات الآخر أو مركزه ومنصبه الاجتماعي، أيضاً هذه العلاقات مهما بدت معسولة هي فاشلة أيضاً، فمن يرى أنه يملك هكذا نوع من العلاقات، أيضاً الانسحاب هو الأفضل لأن عنوانها استغلالي لا اخوي مبني على المحبة، والأسلم هو وضع مسافة محددة مع هذا النوع من الأشخاص، لكي لا أحد يقع فريسة لهذا النوع من علاقات لا طائل منها ولا مستقبل لها، وقد يقول قائل، ما الفائدة من سرد هذه الأمور، بالطبع ليس من باب الترف أو غيره، بل لأن اليوم الأمة حقيقةً منكوبة وتُعاني من ظواهر اجتماعية خطيرة وهجينة على مجتمعاتنا، يجب الوقوف عندها والتحذير منها، فقيمة الإنسان اليوم مهمة ومن لا يصنع قيمته سيفقد احترام الآخرين، خاصة الناس المعروفة في مجالاتها، فكرياً أو سياسياً أو غير ذلك، مع التواضع وعدم التعالي والغرور على الناس، وأي مجلس أو مكان أو قناة أو إنسان لا يمنح الآخر القدر الاجتماعي الانسحاب هو عنوان الرجولة.

 

في زمن "فيروس كورونا" لاحظ الجميع ظهور أشخاص تقول إنها متخصصة سواء في الاقتصاد أو الفكر أو السياسة أو الطب، خاصة "جماعات الطب البديل"، يفهمون في كل شيء، هل هذه الظاهرة مردها نفسي بسبب الحجر؟ الله أعلم، الأهم إن كان هذا أو ذلك متخصصين لا بأس وإن كانوا متخصصين في الطب ويتحدثون عن الاقتصاد فذلك خطأ، يقول المَثَل الشعبي: (دع الخبز للخباز ولو أكل نصفه)، أي لا نقتحم ما لا نفهم به، كي لا نكون عرضة للسخرية والاستهزاء، فالرقي مطلوب، حتى دينياً، إن القرآن الكريم علمنا فن التعامل الجميل، (وأعرض عن الجاهلين)، والآية تشرح نفسها.

 

للتغلب على هذه الظواهر، الحلول بسيطة ومتوفرة لدى الجميع، لا تحتاج إلى للوعي الكامل، ونعلم أبنائنا على تكوين شخصية سليمة جميلة لها أهميتها تكبر معهم، نعلمهم فن التخاطب ولغة الاستماع، نعلمهم تقبل الآخر، نعلمهم أن العقوبة هي الطريق لفعل الأمر الصحيح، وأن الأوامر هي لأسبابٍ سيفهمونها من التجربة، تحدث معهم وخصص لهم الوقت، فمن ينمي أطفاله ينبي جيلاً صحياً يميز بين الخطأ والصواب، فالتلقين خاطئ، والتعليم الفلسفي هو الأساس من خلال سرد حكاية ما، فيها عبرة وموعظة وحكمة، دعهم يقرأون ويشاهدون برامج كرتونية فيها وعي طفولي ينمو معهم، وإذا ملكنا نحن كأمة عربية رغبة صادقة نعمل على صناعة جيل واعٍ، من داخل الأسرة والحكومات والمؤسسات والمنصات الإعلامية، نستطيع إحداث فرق، من خلال الاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى وتجارب الآخرين وتعليم اللغة القرآنية، سنستطيع إحداث فرق.